مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ
(2)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} الآيَةَ: 5، وَالمُرادُ بالذِّكْرِ: الْقُرْآنُ الكريمُ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِن رَّبِّهِمْ" يَقُولُ: مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ "الذِّكْرِ" الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ وَصْفِهِ بِالتَّذْكِيرِ. وَالْمُحْدَثُ: الْجَدِيدُ المُتَكَرِّرُ نُزُولُهُ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالذِّكْرِ كُلَّمَا جَاءَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَزَالُونَ بِحَاجَةٍ إِلَى إِحْداثِهِ لإِعَادَةِ التَّذْكِيرِ قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَوْ سَمِعُوا ذِكْرًا وَاحِدًا فَلم يَعْبَؤُوا بِهِ لَاخْتَرَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ عُذْرًا بأَنَّهُمْ كَانُوا سَاعَتَئِذٍ فِي غَفْلَةٍ، أَمَّا وَقَدْ تَكَرَّرَ حُدوثُ التَّذْكيرِ فقد تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ. إِذًا فَلَيْسَ المُرَادُ بِالْمُحْدَثِ مَا هوَ مُقَابِلٌ للْقَدِيمَ، كما هوَ مقرَّرٌ في اصْطِلَاحِ عِلْمِ الْكَلَامِ، وذلِكَ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِسِيَاقِ النَّظْمِ الكريمِ.
قولُهُ: {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} هُوَ بَيَانٌ لِقوْلِهِ تَعَالَى فِي الآيَةِ الَّتي قَبْلَها: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} إِذْ بَيَّنَ تَمَكُّنَ الْغَفْلَةِ مِنْهُمْ، وَسَبَبَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ، فَقَدْ كانوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ مُذَكِّرًا لَهُمْ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، اشْتَغَلُوا عَنْهُ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، فَلَمْ يَفْقَهُوا مَعَانِيَهُ، ولمْ يَدْرُوا مَرَامِيَهِ، بَلْ كَانَ حَظُّهُمْ مِنْهُ سَمَاعَ أَلْفَاظِهِ، كَما قَالَ تَعَالَى في الْآيةِ: 171، مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}.
قوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} مَا: نافيَةٌ، و "يَأْتِيهِمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضَمَّةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لِثِقَلِها على الياءِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، والمِيمُ: عَلامَةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ لابْتِداءِ الغايَةِ مَجازًا، مُتَعَلَّقٌ بِـ "يَأْتيهم"، وهوَ زَائدٌ لِسَبْقِهِ بِالْنَّفْيِ. ويَجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ في "مُحْدَثٍ"، أَوْ حالٌ مِنْ "ذِكْرٍ" نَفْسِهِ وَإنْ كانَ نَكِرَةً، لِأَنَّهُ قَدْ تَخَصَّصَ بِالوَصْفِ بـ "مُحْدَثٍ"، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِكَ: مَا جَاءَني رَجُلٌ قائِمًا مُنْطَلِقٌ. فَإنَّ فيهِ فَصَلًا بِالحَالِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالمَوْصُوفِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الكَلامَ على النَّفْيِ، وَهُوَ مُسَوِّغٌ لِمَجِيءِ الحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ نَعْتًا لِـ "ذِكْرٍ" فَيَجُوزُ فِي مَحَلِّهِ الوَجْهَانِ: الجَرُّ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ، وَالرَّفْعُ بِاعْتِبارِ المَحَلِّ، لِأَنَّهُ مَرْفوعُ المَحَلِّ إِذْ "مِنْ" مَزيدةٌ فِيهِ. وَفِي جَعْلِهِ نَعْتًا لِـ "ذِكْرٍ" إِشْكالٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ الصَّريحِ عَلَى الصَّريحِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلى سَبِيلِ البَيَانِ. و "ذِكْرٍ" مَجْرُورٌ لَفْظًا بحرفِ الجَرِّ، مَرْفُوعٌ محَلًا على أَنَّهُ فاعِلُ "يَأْتي" تقديرًا. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ أُولَى لِـ "ذِكْرٍ"، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِـ "يَأْتِيهِمْ"، و "ربِّهِمْ" اسْمٌ مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ لتَذْكيرِ الجَمْعِ. وَ "مُحْدَثٍ" صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِـ "ذِكْرٍ" وهي تابِعَةٌ لِلَفْظِهِ. وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلها لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قوْلُهُ: {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} إِلَّا: أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ. وَ "اسْتَمَعُوهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الَجَمَاعَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ مَفْعُولِ "يَأْتِيهِمْ"، وَلَكِنَّهَا عَلَى تَقْديرِ "قَدْ" لِكَوْنِهَا مَاضَوَيَّةً؛ أَيْ: إِلَّا حَالَةَ كَوْنِهِمْ مُسْتَمِعِينَ إِيَّاهُ. و "وَهُمْ" الوَاوُ: حَالِيَّةٌ، و "هُمْ" ضميرٌ منفصِلٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِدَاءِ، و "يَلْعَبُونَ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ مِنْ فَاعِلِ "اسْتَمَعُوهُ"، أَيْ: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ حَالَةَ كَوْنِهِمْ لَاعِبِينَ.
قرَأَ العامَّةُ: {مُّحْدَثٍ} بالجَرِّ عَلى أَنَّ قَوْلَهُ: "مِنْ مُحْدَثٍ" مَحَلُّهُ الجَرُّ نَعْتًا لِـ "ذِكْرٍ" عَلى اللَّفْظِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبي عَبْلَةَ "مُحْدَثٌ" رَفْعًا على أنَّهُ نَعْتٌ لِـ "ذِكْرٍ" عَلى المَحَلِّ لِأَنَّ "مِنْ" مَزيدَةٌ فِيهِ لِاسْتِكْمَالِ الشَّرْطَيْنِ، فهوَ مجرورٌ بها لَفْظًا مَرْفُوعٌ بالفاعِلِيَّةِ مَحَلًا. وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: وَلَوْ رُفِعَ عَلَى مَوْضِعِ "مِنْ ذكْر" جَازَ. كَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ قِرَاءَةً. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ "مُحْدَثًا" نَصْبًا عَلى الحَالِ مِنْ "ذِكْرٍ"، وَقد سَوَّغَ ذَلِكَ وَصْفُهُ بـ "مِنْ رَبِّهم" إِنْ جَعَلْنَاهُ صِفَةً، أَوْ اعْتِمَادُهُ عَلَى النَّفْيِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ فِي "مِن رَّبِّهِمْ" إِذَا جَعَلْناهُ صِفَةً.