قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى
(135)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا} أَيْ: قُلْ يا رَسُولَ اللهِ لهَؤلاءِ المُشركينَ الذينَ يَطْلُبونَ مِنْكَ ـ تَعَنُّتًا ومُعَاجَزَةً وَعِنَادًا، أَنْ تَأْتِيَهِمْ بالآياتِ الَّتي يَرْغَبُونَ وَيَقْتَرِحِونَها عَلَيْكَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ في الآيةِ: 133، السَّابقةِ: {لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ}، قُلْ لَهُمْ: انْتَظِرُوا، فَالكُلُّ مُنْتَظِرٌ، أَنْتُمْ تَتَرَبَّصُونَ بِالْإِيمَانِ، فَتُؤَخِّرُونَهُ إِلَى أَنْ تَأْتِيَكُمْ آيَةٌ مِنَ اللهِ، وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ أَنْ يَأْتِيَكُمْ عَذَابٌ مِنَ اللهِ في الدُّنْيَا، أَوْ الْآخِرَةِ. "فَتَرَبَّصُوا" واسْتَمِرُّوا عَلى تَرَبُّصِكم، فسَنَتْرُكُكُمْ وَتَرَبُّصَكُمْ لِأَنَّا مُؤْمِنُونَ بِسُوءِ مَآلِكمْ وَمَصِيرِكُمْ.
إِذًا فَإِنَّ في هذهِ الآيَةِ الكَريمَةِ الرَّدَّ عَلَى ما كانُوا طَلَبُوهُ قَبْلُ مِنْ آياتٍ ومعجِزاتٍ تعَنُّتًا منهُمْ وعنادًا، وهو ما سَبَقَ أَنْ تَحَدَّثَتْ عنْهُ الآيةُ: 133، السَّابقَةِ، وَمَا بَيْنَ الآيتيْنِ هُوَ اعْتراضٌ.
وَ "تربَّصَ" مِنَ الرَّبْصِ الذي هوَ الانْتِظارُ بِوَزْنِ "تَفَعَّلَ". وَالتَّرَبُّصُ بالآخَرِ انْتِظِارُ حُصُولِ أَمْرٍ بِهِ، وَيُخُصُّهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، قالَ اللهُ تَعَالى في الآيةِ: 52، مِنْ سُورةِ التَّوبةِ: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}. أَيْ: هَلْ تَنْتَظِرُونَ لَنَا إِلَّا النَّصْرَ عَلَيْكُمْ وَالظَّفَرَ بِكُمْ، أَوِ الشَّهادَةَ في سَبيلِ اللهِ، وَكِلاهُما خَيْرٌ بالنِّسْبةِ لَنَا، أَمَّا نَحْنُ نَنْتَظِرُ بِكُم أَنْ يُعَذِّبَكَمُ اللهُ بِأَيْدِينا، أَوْ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ، وكلاهُما شَرٌّ ووبالٌ عَلَيْكُمْ. والمُتَرَبِّصُ هُوَ المُحْتَكِرُ وَيَتَعَدَّى هذا الفِعْلُ بإِسْقَاطِ حَرْفِ الجَرِّ كما في قَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَرَبَّصْ بها رَيْبَ المَنُونِ لعلّها ............. تُطَلَّقُ يومًا أَو يَمُوتُ حَلِيلُها
هذا البَيْتُ مجهولُ النَّسَبِ، وهُوَ مِمَّا أَنْشَدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَلَمْ يُعْرَفْ قائلُهُ.
قولُهُ: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى} إِعْلَامٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ، هُمُ المُهْتَدونَ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَريقُ المُؤْمِنينَ، أَمْ فريقُ المُشْرِكينَ. وَفي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُمُ الْمُهْتَدُونَ، أَمَّا فريقُ المُشْرِكينَ فهُمْ عَلى ضَلَالٍ وعاقبةُ أَمْرِهِمْ خُسْرًا.
وَيَحْتَمِلُ المَعْنَى أَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَانْتِصَارِ الْمُسْلِمِينَ على الشِّركِ والمُشْركينَ، فَيَكُونُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مَنْ يَبْقَى مِنَ الْكُفَّارِ الْمُخَاطَبِينَ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الكَريمةِ سَوَاءٌ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمُوا كَصَنَادِيدِ الْمُشْرِكَيْنَ الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا ورَأَوْا كَيْفَ نَصْرَ اللهُ دينَهُ وَرَسُولَهُ وَالمُؤْمنينِ، مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ، أَوْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَشَاهَدَ كيفَ أَعَزَّ اللهُ الْإِسْلَامِ والمُسْلمينَ، مِثْلَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبِ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وعِكْرِمَةَ بْنِ أبي جهْلٍ، وغيرِهِم. وَيُحْتَمِلُ أَنَّ المُرادَ بِـ "يَعْلَمُونَ" أَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ عِلْمَ الْيَقِينِ يومَ القيامَةِ، واللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
ومِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَا يُقَالُ عادَةً إِلَّا فِي مَقَامِ الْمُحَاجَّةِ وَالْمُتَارَكَةِ إِلَّا مِنْ مُؤْمِنٍ مُوقِنٍ بِأَنَّهُ عَلى الحَقِّ المُبينِ، وَمُؤيَّدٌ مِنْ رَبِّ العالَمينَ، الذي بيدِهِ مَلَكوتُ كلِّ شيْءٍ، والأَمْرُ كُلُّهُ راجِعٌ إِلَيْهِ.
وَ "الصِّرَاطُ" لُغَةً: هُوَ الطَّرِيقُ، لكِنَّهُ اسْتُعِيرَ هُنَا لِما يَخُصُّ المِلَّةِ والعَقِيدَةِ وَالدِّينِ، كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى في الآيَةِ السَّادِسَةِ مِنْ سُورَةِ فَاتِحَةِ الكِتَابِ: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}.
وَ "السَّوِيُّ": اشْتِقاقٌ مِنَ التَّسْوِيَةِ، أَيِ الصِّرَاطِ الْمُسَوَّى، وَهُوَ مَفْعُولٌ بِمَعْنَى فَعِيلٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ عَنِ الإمامِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "أَصْحَاب الصِّرَاطِ السَّوِيِّ" قَالَ: الْعدْل.
وَقَدْ جَاءَتْ خَاتِمَةُ هَذِهِ السُّورَةِ المُباركةِ كَما تجيءُ أَبْلَغُ خَوَاتِمِ الْكَلَامِ وَأَحْسَنِهَا، لِإِيذَانِهَا بِانْتِهَاءِ الْمَحَاجَّةِ بَيْنَ الفَريقيْنِ. كَمَا أَنَّ فِيهَا شَبِيهَ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ لِأَنَّهَا تُنَظِّرُ إِلَى فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ في أَوَّلِها: {طَهَ. مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}، فجاءَتِ خَاتِمَتُها لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ ـ علَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، قَدْ بَلَّغَ كُلَّ مَا بُعِثَهُ بِهِ رَبُّهُ مِنْ هِدايةِ الخَلْقِ إلى الحقِّ َوَدَلَالَتِهمْ عليْهِ، وإِرْشَادِهِمْ إِلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَهْتَدُوا بِذلكَ كلِّهِ فَقدْ كَفَاهُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، انْثِلاجُ صَدْرِهِ الشَّريفِ بِأَنَّهُ أَدَّى الرِّسَالَةَ وأَدَّى الأَمَانَةَ، ووَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهم بآلاءِ رَبِّهِمْ ونِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، ولَكِنَّهُم لَمْ يَهْتَدُوا، ولمْ يتَّعِظوا، ولمْ يتذَكَّروا، لأنَّهُم ما كَانُوا مِنْ أَهْلِ الهِدايةِ وَالْخَشْيَةِ مِنْ رَبِّهِمْ، فَتَرْكَهُمْ وشِرْكَهُمْ وَكُفْرَهُمْ وَضَلَالَهُمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، فاللَّهُمِّ اجْزِهِ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ خَيْرَ ما جزيْتَ نَبِيًّا عنْ أُمَّتِهِ، وصَلِّ اللهُمَّ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسَلَّمْ، صلاةً وسلامًا يَلِيقَانِ بجنابِهِ الكريمِ وَقَدْرِهِ العَظِيمِ، وآخِرُ دَعْوانا أَنِ الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ} فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قوْلُهُ: {كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} كُلٌّ: مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، وَسَوَّغَ الابْتِداءَ بِالنَّكِرَةِ قَصْدُ العُمُومِ، وَالتَنْوِينُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ، كَمَا في قَوْلِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ اللَّهَبِيِّ:
كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ ................ بِنِعْمَةِ اللهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا
وَ "مُتَرَبِّصٌ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفوعٌ مِثْلُهُ، وقَدْ أَفرَدَ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ "كُلٌّ"، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قُلْ".
قوْلُهُ: {فَتَرَبَّصُوا} الفاءُ: هيَ الفَصِيحَةُ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ والتَّقديرُ: إِذَا عَرَفْتُمْ أَنَّ كُلًّا مِنَّا وَمِنْكُمْ مُتَرَبِّصٌ، وَأَرَدْتُمْ بَيَانَ مُقْتَضَى ذَلِكَ فَأَقُولُ لَكُمْ: تَرَبَّصُوا، و "تَرَبَّصُوا" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ عَلَى حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجِماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ للتَّفْريقِ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ في مَحَلَّ النَّصْبِ أَيْضًا مَقُولٌ لِجَوَابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذا" المُقَدَّرَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قُلْ".
قوْلُهُ: {فَسَتَعْلَمُونَ} الفاءُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، والسِّينُ حَرْفُ اسْتِقبالٍ، وَ و "تَعْلَمُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجِماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: {مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ} مَنْ: اسْمُ اسْتِفْهَامٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. وَ "أَصْحابُ" خَبَرُهُ مَرفوعٌ، وهوَ مُضافٌ، وَ "الصِّرَاطِ" مَجْرُورٌ بِالإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وَ "السَّوِيِّ" صِفَةُ "الصِّراطِ" مَجْرورةٌ مِثْلُهُ، وَالجُمْلَةُ الاسْتِفْهامِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "يَعْلَمونَ" لأَنَّ الفِعْلَ "عَلِمَ" يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ اثْنَيْنِ، وَالكلامُ: عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ؛ والتَقْديرُ: فَسَتَعْلَمُونَ جَوَابَ مَنْ هَمْ أَصْحابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ؛ أَيْ: فَسَتَعْلَمُونَ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ، وَهُوَ أَنَّهُ هُمُ المُؤْمِنُونَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ "عَلِمَ" عِرْفانِيَّةً فَتَكْتَفيَ بِمَفْعُولٍ واحِدٍ، أَمَّا إِذا كانَتْ عَلَى بابِهَا فَلَا بُدَّ حينَها مِنْ تَقْديرِ مفعُولٍ ثانٍ لها.
وَيَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ "مَنْ" اسْمًا مَوْصُولًا مَبْنِيًّا عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ لِـ "تَعْلَمُونَ"، وَ "أَصْحَابُ" خَبَرٌ مَرْفوعٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْديرُهُ (هُمْ)، وهُوَ مُضافٌ، و "الصِّرَاطِ" مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ، وَهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ (هُمْ أَصْحَابُ) صِلَةُ المَوْصُولِ "مَنْ" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. وَيُعْزَى هَذَا الإعْرابُ لِلفَرَّاءِ فهُوَ عِلَى مُقْتَضى مَذْهِبِهم، فهم يَحْذُفونَ مِثْلَ هَذَا العائدِ وَإِنْ لَمْ تَطُلِ الصِّلَةُ.
قولُهُ: {وَمَنِ اهْتَدى} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "مَنِ" إعرابُها كإِعْرابِ سابقَتِها، أَيْ: أَنْ تَكونَ مَوصولَةً، وحُكْمُها كَالَّتي قَبْلَهَا إِلَّا فِي حَذْفِ العائِد. أَوْ أَنَّها في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الاسْتِفْهَامِيَةِ. وَثَمَّةَ وَجْهٌ ثالِثٌ فيها: بِأَنْ تكونَ في مَحَلِّ الجَرِّ عَطْفَ نَسَقٍ عَلَى "الصِّراطِ"، أَيْ: وَأَصْحَابُ مَنِ اهْتَدَى. وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ مَوْصُولَةً أَيْضًا، قَالَ أَبُو العُكْبُرِيُّ في الوَجْهِ الثاني: وَفِيهِ عَطْفُ الخَبَرِ عَلَى الاسْتِفْهَامِ، وَفِيهِ تَقْوِيَةُ قَوْلِ الفرَّاءِ. أَيْ أَنَّهُ إِذَا جَعَلَها مَوْصُولَةً كَانَتْ خَبَرِيَّةً. وَإِنَّمَا حُرِّكَتْ بالكَسْرِ لالْتِقاءِ الساكنينِ. وَ "اهْتَدَى" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ عَلى الفتْحِ المُقدَّرِ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهورِهِ على الأَلِفِ، وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "مَنِ" وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ؛ والتَقديرُ: وَمَنِ المُهْتَدِي؛ أَيْ: وَجَوابَ مَنِ المُهْتَدِي مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَجُمْلَةُ "مَنِ" الاسْتِفْهامِيَّةِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ" عَلَى كَوْنِهَا سَادَّةً مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "عَلِمَ" كما تقدَّمَ تفصيلُهُ آنِفًا.
قَرَأَ العامَّةُ: {السَّوِيِّ} عَلَى وَزْنِ "فَعِيلٍ" بِمَعْنَى المُسْتَوي. وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ، وَعُمْرانُ بْنُ حديرٍ: "السَّواءِ" بِفَتْحِ السِّينِ وَالمَدِّ، أَيْ بِمَعْنَى الوَسَطِ الجَيِّدِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُر، وَالجَحْدَرِيُّ "السّوءَى" عَلَى وزْنِ "فعلى" باعْتِبارِ أَنَّ الصِّراطَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَقَرَأ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، "السَّوْءَ" بِفَتْحِ السِّينِ، أَيْ بِمَعْنَى الشَّرِّ. وَرُوِيَ عَنْهُمُا "السُّوَّى" بِضَمِّ السِّينِ وَتشْديدِ الوَاوِ. فَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يكونَ قَلَبَ الهَمْزَةَ وَاوًا، وَأَدْغَمَ الوَاوَ فِي الواوِ، وَأَنْ يَكُونَ على وزْنِ "فُعْلَى" مِنَ السَّواءِ. وَأَصْلُهُ "السُّوْيا" فقُلِبَتِ الياءُ وَاوًا وَأُدْغِمَ أَيْضًا. وقد كانَ قِياسُ هَذِهِ القراءةِ "السُّيَّا"؛ لِأَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَتْ ياءٌ وواوٌ، وَسُبِقَتْ إِحْداهُما بِالسُّكونِ فإِنَّهُ تُقْلَبُ الواوُ ياءً، أَمَّا هُنَا فَإِنَّهُ قَدْ فُعِلَ العَكْسُ.
والثاني: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ أَيْضًا "السُّوَيِّ" بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الواوِ وَتَشْديدِ الياءِ، أَيْ تَصْغير "سُوْءٍ".
وَقالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانٍ الأنْدَلُسِيُّ في تفسيرِهِ البَحر: وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَثَبَتَتْ هَمْزَةُ "سوء". وَالأَجْوَدُ أَنْ يَكونَ تَصْغِيرَ "سَواء"، كَقَوْلِهِمْ "عُطَيّ" في "عَطاء".
وَقَالَ السَّمينُ الحلبيُّ: وَقَدْ جَعَلَهُ أَبُو البَقاءِ أَيْضًا تَصْغِيرَ "السَّوْءِ" يَعْنِي بِفَتْحِ السِّينِ. ويَرِدُ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ إِيرادُهُ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ، وَإِبْدَالُ مِثْلِ هَذِهِ الهَمْزَةِ جائزٌ فَلَا إِيرادَ.
وبهَذا يكونُ قدْ تَمَّ الجِزءُ السادِس عشر بحمدِ اللهِ ومِنَّتِهِ، ويليهِ الجزءُ السابع عَشَر بِمَشيئَتِهِ تَعَالى ومعونتِهِ.
قرية كَفَر زَبَد البقاعِيةِ اللبنانيّة، مَساءَ التاسع والعِشرينَ منَ الشَّهْرِ المُحرَّمِ لعامِ: 1342 للهِجْرَةِ سيِّدِ الأَوَّلينَ والآخِرينَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ إلى يومِ الدين، الموافق للثالث عشر مِنْ أَيْلول عامَ: 2020 لِمِيلادِ السيِّدِ المَسيح ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وفي ضيافةِ أخي الكريم الأستاذ: عُمَر الحُشَيْمِي غفرَ اللهُ لهُ ولوالديهِ وولدِهِ والمُسلمين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.