وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى
(132)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} عَطْفٌ عَلَى قَولِهِ تَعالى في الآيَةِ الَّتي قبلَها: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم} وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ مَرْيَمَ: {وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ} الآيَةَ: 55. فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى هُنَا أَيْضًا نَبِيَّهُ ـ عَلَيْهِ صَلَاةُ اللهِ وَسَلَامُهُ، أَنْ يَأْمُرَ أَهْلَهُ بِالْصَّلاةِ للهِ الَّتِي هِيَ في حَقِيقَتِها صِلَةٌ بهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، والأَمْرُ يَشْمَلُ كلَّ واحِدٍ في المُجْتمَعِ الإنِسانِيِ المُسلِمِ، فإِذَا اتَّصَلَ باللهِ تَعَالَى كُلُّ واحِدٍ وَأَهْلُهُ، أَيْ هُوَ أُسْرتُهُ الَّتِي هِيَ خَلِيَّةٌ مِنْ خَلايَا المُجْتمعِ، وَلَبِنَةٌ في بِنَاءِ الكَوْنِ وَالوُجُودِ العَظِيمِ، اسْتَقَامَتْ جَمِيعُ أُمُورِهِم فِي الحياةِ، فإِذَا اسْتَقامَتْ أُمُورُ الخَليَّةِ الأُولَى في بِنَاءِ المُجْتَمَعِ، وَصَلُحَ حالُها، اسْتَقامَ أَمْرُ الكوْنُ كُلِّهُ وصَلُحَ حَالُ الوُجُودِ بِأَجْمَعِهِ.
وَمِنْ المُفَسِّرينَ مَنْ حَمَلَ هَذا الأَمْرَ عَلَى أَقَارِبِهِ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى كُلِّ أَهْلِ دِينِهِ، وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الأَمْرِ هُمْ مَنْ يَضُمُّهُمُ الْمَسْكَنُ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَهْلِ هُنَا مُقَابِلٌ لِذِكْرِ الْأَزْوَاجِ فِي قَوْلِهِ منَ الآيةِ الَّتي قَبْلَها: {إِلَى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجًا مِنْهُمْ}، فَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ أَزْوَاجَهُ، أَيْ: مِتْعَتُكَ وَمِتْعَةُ أَهْلِكَ الصَّلَاةُ فَلَا تُلَفَّتُوا إِلَى زَخَارِفِ الدُّنْيَا، وَأَهْلُ الرَّجُلِ يَكُونُونَ أَمْثَلَ مَنْ يَنْتَمُي إِلَيْهِ.
وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ جَمِيعُ أُمَّتِهِ، فقد قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: أَرَادَ بِأَهْلِهِ: قَوْمَهُ، وَقَدْ يُسَمَّى قَوْمُ الرُّسُلِ: أَهْلَهُمْ، لِمَا أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ"، قَالَ: قَوْمَكَ. يَعْنَى كَمَا أَمَرْنَاكَ بِالصَّلَاةِ، فَأْمُرْ أَنْتَ قَوْمَكَ بِهَا. واللهُ أَعْلَمُ بمُرادِهِ.
وَجائزٌ أَنْ يَكونَ المُرادُ بِالْأَهْلِ: الذينَ يَأْهْلُهُمْ وَكانُوا فِي عِيالِهِ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ عَلَى التَّخْصِيصِ، إِذِ التَّنْبِيهُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَالْأَمْرُ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا مُمْكِنٌ فِيهِمْ دُونَ سَائِرِ الْأُمَّةِ. وَكَانَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ، بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ يَذْهَبُ كُلَّ صَبَاحٍ إِلَى بَيْتِ فَاطِمَةَ وَعَلِيٍّ ـ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمَا، فَيَقُولُ: ((الصَّلَاةَ الصَّلاةَ)). وَبَقِيَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَشْهُرًا.
فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَابْنُ النَّجَّارِ، عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ" كَانَ النَّبِي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَجِيءُ إِلَى بَابِ عَلِيٍّ صَلَاةَ الْغَدَاةِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ يَقُولُ: ((الصَّلَاةُ رَحِمَكُمُ اللهُ، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرًا} الآيَةَ 33، مِنْ سُورةِ الْأَحْزَاب)).
وَأَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ فِي كتابِ الزُّهْدِ منْ مُسْندِهِ برقم: (48)، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: (4/518)، عَنْ ثَابتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَتْ أَهْلَهُ خَصَاصَةٌ نَادَى أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ: ((صَلُّوا صَلُّوا)). قَالَ ثَابِتٌ: وَكَانَت الْأَنْبِيَاءُ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، إِذَا نَزَلَ بِهِمْ أَمْرٌ فَزِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعجمِهِ الْأَوْسَطِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ سَلامٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا نَزَلَتْ بِأَهْلِهِ شِدَّةٌ أَوْ ضِيقٌ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ، وتَلا: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ" الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ مُعَمَّرَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا دَخَلَ عَلى أَهْلِهِ بَعْضُ الضِّيقِ فِي الرِّزْقِ أَمَرَ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ قَرَأَ: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ" الْآيَةَ.
وَيَدْخُلُ تَحْتَ بابِ أَمْرِ الأَهْلِ بالصَّلاةِ، أَنْ يَحْرِصَ المَرْءُ عَلَى أَدَاءِ الصَّلاةِ معَ عِيالِهِ، وأَمامَ أَوْلادِهِ، وَذَلِكَ لِتَرْسيخِ أَهَمِيَّتَها في أَذَهانِهِم، وَغَرْسِ مَهَابَةِ التَّكْليفِ بها في أَنْفُسِهِمْ، وَاحْتَرَامِ فَرْضيَّتِها، وَالحِرْصِ عَلى تَقْديمِها عَلى أَيِّ عَمَلٍ أخَرَ مَهْمَا كَانَ هَذا العَمَلُ مُهِمًّا.
وَهَكَذَا كانَ أَصْحَابُ سيِّدِنا رسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، رُضْوانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَسْلَمَ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُصَلِّي، حَتَّى إِذا كَانَ آخَرَ اللَّيْلِ أَيْقَظَ أَهْلَهُ للصَّلَاةِ، وَيَقُولُ لَهُم: الصَّلَاةَ، الصَّلَاةَ، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ" الآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ، قَالَ: قَالَ لَنَا أَبِي ـ عُروةُ ابْنُ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتَها، فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، وَلْيَأْمُرْهُمْ بِالصَّلَاةِ، وَلْيَصْطَبِرْ عَلَيْهَا، فَإِنَّ اللهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: {وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم}، وَقَرَأَ إِلَى آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أَيْ: الْزَمْهَا وَدَاوِمْ عَلَيْهَا، لِأَنَّ فِي لُزُومِ الصَّلاةِ، وَالدَّوامِ عَلَيْهَا مَشَقَّةً تَحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ، فهيَ تَحْتَاجُ وَقْتًا مِنْ حيَاةِ الإنسانِ، وأعمالًا قدْ يكونُ في القيامِ بها احْتِمَالُ البَرْدِ، أَوِ الحرِّ، ومفارقةُ الفراشِ، وجافاتُ النَّومِ فِي أَلَذِّ أوْقاتِ النَّوْمِ، ولكنْ لأَنَّها سَبَبُ الخَيْرِ لَكَ وَالنَّفْعِ في الدنيا والآخِرَةِ، فَلَا بُدَّ لكَ إِذًا مِنَ الصَّبْرِ عَلَيْها واحْتِمَالِ المَشَقَّةِ فِي أَدَائهَا.
وَالِاصْطِبَارُ: الِانْحِبَاسُ، فَهُوَ مُطَاوِعٌ لقولِكَ: "صَبَرَهُ"، إِذَا حَبَسَهُ، وَهذِهِ المُفْرَدَةُ مُسْتَعْمَلةٌ هُنَا مَجَازًا فِي الإِكْثَارِ مِنَ صَّلَاةِ النَّوَافِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الإسْراءِ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ} الْآيةَ: 79، وَكما قَالَ في الآيةِ الأُولى مِنْ سُورَةِ المُزَّمِلِ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}.
وثمَّةَ فَرْقٌ بَيْنَ قولكَ: "اصْبِرْ"، وقولِكَ: "اصْطَبِرْ: فالاصْطِبارُ هوُ المُبَالَغَةُ في الصَّبْرِ، أَيْ: تَكَلَّفِ الصَّبْرَ وتَعَمَّدْهُ. فَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ أَهْلَهُ وَهُوَ أَنْ يَصْطَبِرَ عَلَى الصَّلَاةِ. أَيْ: كَمَا تَأْمُرُهُمْ بالصَّلاةِ فَحَافِظْ عَلَيْهَا فِعْلًا، فَإِنَّ الْوَعْظَ بِلِسَانِ الْفِعْلِ أَتَمُّ مِنْهُ بِلِسَانِ الْقَوْلِ.
وَمِنْ آثَارِ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي السُّنَّةِ النَّبَويةِ مَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ـ وغَيْرِهِ: أَنَّ السَّيِّدَةَ فَاطِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهَا وأَرْضَاهَا، بَلَغَهَا أَنَّ سَبْيًا جِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَتْ تَشْتَكِي إِلَيْهِ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى تَسْأَلُهُ خَادِمًا مِنَ السَّبْيِ فَلَمْ تَجِدْهُ. فَأَخْبَرَتْ أُمُّ المُؤمنينَ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهَا وَأَرْضاها، بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهَا النَّبِيُّ ـ عليْهِ صَلاةُ اللهِ وَسَلامُهُ، وَقَدْ أَخَذَتْ وَعَلِيٌّ مُضَّجَعَهُمَا، فَجَلَسَ فِي جَانِبِ الْفِرَاشِ، وَقَالَ لَهَا وَلِعَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: ((أَلَا أُخْبِرُكُمَا بِخَيْرٍ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَا: تُسَبِّحَانِ، وَتَحْمَدَانِ، وَتُكَبِّرَانِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ)).
قَوْلُهُ: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ لِمَنَافِعِهِمْ وَأَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنِ الْمَنَافِعِ بِقَوْلِهِ: "لا نَسْئَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ" وَالسُّؤَالُ: الطَّلَبُ التَّكْلِيفِيُّ، أَيْ مَا كَلَّفْنَاكَ إِلَّا بِالْعِبَادَةِ، لِأَنَّ الْعِبَادَة شكر لله عَلَى مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى الْخَلْقِ وَلَا يَطْلُبُ اللهُ مِنْهُمْ جَزَاءً آخَرَ. وَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ وَمِنْهُمُ الْعِبَادَةُ وَلَا يُرِيدُ مِنْهُ أَنْ يَرْزُقَهُ كَمَا تُرِيدُ السَّادَةُ مِنَ الْعَبِيدِ الْخَرَاجَ في العادةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى مِنْ سُورةِ الذَّارِيَاتِ: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} الآيتان: (56 و 57).
وَثَانِيهَا: لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا لِنَفْسِكَ وَلَا لِأَهْلِكَ بَلْ نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَنَرْزُقُهمْ، فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانٍ الثَّوْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "لَا نَسْأَلك رزقًا" قَالَ: لَا نكلفك بِالطَّلَبِ. فَفَرِّغْ بَالَكَ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَالنَّاسُ يَقُولونَ في هَذَا المَعْنى: (مَنْ كَانَ فِي عَمَلِ اللهِ تعالى، كَانَ اللهُ فِي عَمَلِهِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ المَعْنَى لَمَّا أَمَرْنَاكَ بِالصَّلَاةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّا نَنْتَفِعُ بِصَلَاتِكَ، بَلْ نَحْنُ الذينَ نَرْزُقُكَ، ونُمِدُّكَ بِأَلْوانِ النِّعَمِ فِي الحياةِ الدُّنْيَا، وَبِالأَجْرِ والثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ.
قولُهُ: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} أَيِ: الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ وَهِيَ الجَنَّةُ، لِأهْلِ التَّقْوَى الذينَ يَخَافونَ اللهَ تَعَالَى، فَيَبْتَعِدونَ عَمَّا يُغضِبُهُ ويَفْعَلونَ ما يأْمُرُهُمْ بِهِ، فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوَلِهِ تَعَالى: "وَالْعَاقِبَةُ للتَّقْوَى": هِيَ الْجنَّة. يَعْنِي: أَنَّ الْجَنَّةَ هِيَ لِأَهْلِ التَّقْوَى دونَ غيرِهِمْ، يُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الآيَةِ: 128، منْ سُورةِ الأَعْراف: {والعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. وَلِغَيْرِ أَهلِ التَّقْوَى عَاقِبَةٌ أَيضًا، وَلَكِنَّهَا مَذْمُومَةٌ غيرُ محمودةٍ فَهِيَ كَالْمَعْدومَةِ، ولِذَلِكَ لَمْ تُذْكَرْ. وَاللهُ أَعْلَمُ
وَحَقِيقَةُ الْعَاقِبَةِ: أَنَّهَا كُلُّ مَا يَعْقُبُ أَمْرًا وَيَقَعُ فِي آخِرِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، إِلَّا أَنَّهَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي أُمُورِ الْخَيْرِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ التَّقْوَى تَجِيءُ فِي نِهَايَتِهَا عَوَاقِبُ خَيْرٍ.
وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ تَحْقِيقًا لِإِرَادَةِ الْخَيْرِ مِنَ الْعَاقِبَةِ لِأَنَّ شَأْنَ لَامِ الْمِلْكِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى نَوَالِ الْأَمْرِ الْمَرْغُوبِ، وَإِنَّمَا يَطَّرِدُ ذَلِكَ فِي عَاقِبَةِ خَيْرِ الْآخِرَةِ. وَقَدْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ فِي خَيْرِ الدُّنْيَا أَيْضًا لِلتَّقْوَى.
وَلَيْسَ فِي هذِهِ الْآيَةِ الكريمةِ أَيَّةُ رُخْصَةٍ فِي تَرْكِ التَّكَسُّبِ ـ كما قد يفهَمُ بعضُ الاتِّكاليينَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْمُتَّقِينَ فِي الآيَةِ: 37، مِنْ سُورةِ النُّورِ فَقَالَ: {رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ}، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى فَالْمُرَادُ وَالْعَاقِبَةُ الْجَمِيلَةُ لِأَهْلِ التَّقْوَى يَعْنِي تَقْوَى اللهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، والله أَعْلَمُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، أَوْ عَاطِفَةٌ، و "أْمُرْ" فعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يعودُ عَلَى سيِّدِنا رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. و "أَهْلَكَ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "بِالصَّلَاةِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أْمُرْ"، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها.
قولُهُ: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "اصْطَبِرْ" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ، مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. و "عَلَيْهَا" عَلى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "أْمُرْ". وَالجْمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتي قَبْلَها.
قوْلُهُ: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} لَا: نَافِيَةٌ لا عَمَلَ لها. وَ "نَسْأَلُكَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، وفاعلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يَعودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلى المَفْعولِيَّةِ. و "رِزْقًا" مَفْعولُهُ الثاني مَنْصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} نَحْنُ: ضميرٌ منفصِلٌ ببنيٌّ على الضَّمِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "نَرْزُقُكَ" مثلُ "نَسْألُكَ" ولهُ مثلُ إِعْرابِهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} الوَاوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "العاقِبَةُ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ. و "لِلتَّقْوَى" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقدَّرٍ لِلْمُبْتَدَأِ، وَ "التَّقْوَى" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ كَسْرةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِهَا عَلَى هَذِهِ الأَلِفِ المَقْصُورَةِ. وثمَّةَ مُضافٌ مُقَدَّرٌ هُنَا، والتقديرُ: لِأَهْلِ التَقْوَى، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةُ ولذلكَ فليسَ لَهَا محلَّ مِنَ الإِعْرَابِ.
وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ تكونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطوفَةً عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ آنِفًا: "لَا نَسْئَلُكَ رِزْقًا"، الْمُعَلَّلِ بِهَا أَمْرُهُ تعالى بِالِاصْطِبَارِ لِلصَّلَاةِ، أَيْ: إِنَّا سَأَلْنَاكَ التَّقْوَى وَالْعَاقِبَةَ.
قرَأَ الجُمْهورُ: {نَرْزُقُكَ} دُونَ إِدْغامِ القَافِ بالكافِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِإِدْغَامِ القافِ فِي الكافِ، وَالمَشهورُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُدْغِمُ إِلَّا إِذَا كانَتِ الكافُ مُتَّصِلَةً بِمِيمِ جَمْعٍ نَحْوَ قولِهِ مِنْ سُورَةِ البَقَرَة: {خَلَقَكُمْ} الآيةَ: 21. وَقَدْ تَقَدَّمَ.