وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى
(131)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} خِطَابُ تَشْريفٍ لسيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وتَعْزِيَةٍ لَهُ عمَّا يُعانيهِ مِنْ فَقْرٍ وَقِلَّةٍ، وما يُعانيهِ مِنْ ضِيقٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ سُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ، قَالَ: هِيَ تَعْزِيَةٌ لِرَسُولِ اللهِ ـ صِلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْلِيمٌ لأُمَّتِهِ، وَتَكْليفٌ لَهُمْ بعدَمِ النَّظَرِ إِلَى مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الكَفَرَةُ العاصِينَ للهِ، مِنْ سَعَةٍ في العَيْشِ، وبَسْطَةٍ في الرِّزْقِ، وتَقَلُّبٍ في نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ، جاءَ ذَلِكَ عَقِبِ الأَمْرِ بالصَّبرِ عَلَى أَذى المُشْركينَ وتَكذيبِهِم بالدِّينِ في الآيةِ التي قبلَها.
وَمَدُّ الْعَيْنَيْنِ: مِنَ المَجَازِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِطَالَةِ مُدَّةِ النَّظَرِ إِلَى الشَّيْءِ إِعْجابًا بِهِ، أَوْ تَعَجُّبًا مِنْهُ. شُبِّهَ ذَلِكَ بِمَدِّ الرُّجُلِ يَدَهُ لِيَتَنَاوَلَ شَيْئًا يُعْجِبُهُ وَتَشْتَهيهِ نَفْسُهُ. والمَعْنَى لَا تُطِلِ النَّظَرَ إلى نِعَمِ اللهِ الَّتي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى هؤلاءِ الكَفَرةِ المُشْركينَ، العَاصِينَ رَبَّهُمُ العظيمِ إِعْجابًا بهَذِهِ النِّعَمِ، أَوْ تَعَجُّبًا بِذَلِكَ الحِلْمِ الإِلَهِيِّ العَظِيم، أَوِ اسْتِغْرابًا، أَنْ يُغْدِقَ كُلَّ هَذِهِ النِّعَمِ والخيرِ العميمِ، عَلى أُولئكَ العُصاةِ المُذنبينَ.
فقدْ نْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنِ الْإِعْجَابِ بِمَا يُنَعِّمُ بِهِ على مَنْ شاءَ مِنْهُم، بالأَمْوَالِ والأَزواجِ وَالبَنِينَ، مَعَ كُفْرِهِمْ بِاللهِ، وَمَعْصِيَتِهِم لَهُ، ولا شَكَّ فإِنَّ في ذَلِكَ حِكَمًا يَعْلَمُهَا هُوَ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، كَمَا قَالَ مِنْ سُورةِ الْمُؤْمِنُونَ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ * نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} الآيَتَانِ: (55 و 56). ومِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الحِكَمِ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، واسْتِيفَاؤهِمْ حظوظَهم فيها، وَعَذابُهُمْ في الآخَرَةِ، قالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَحْقَاف: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} الآيَةَ: 20، كَمَا قَالَ في الآية: 55، مِن سُورَةِ التَّوْبَةِ: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}، وَكَرَّرَ هَذَا الوَعِيدَ في الآيَةِ: 85، مِنَ السُّورَةِ ذَاتِها فَقَال: {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}.
وَقالَ: "أَزواجًا" لِلْإِشَارَةِ إِلَى الْمُتْعَةِ الْمُتَبَادَلَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَكُلُّ زَوْجٍ مُمَتَّعٌ مِنْ زَوْجِهِ بِمَّا يَحْسُنُ فِي نَظَرِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ مَحَاسِنِ الآخَرِ، وَمَا بَيْنَهُما مِنْ مَحَاسِنَ مُشْتَرِكَةٍ كَالأَمْوالِ وَالْبَنِينَ وَالرِّيَاشِ وَالْمَساكنِ والقُصُورِ وَغيْرِ ذَلِكَ.
قولُهُ: {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ: غَضَارَتُها وَحُسْنُها. وَزَهْرَةُ النَبَاتِ أَيْضًا: نَوْرُهُ. وَكَذَلِكَ الزَّهَرَةُ بالتَّحْرِيكِ. الزَّهْرَةُ: ـ بِسُكونِ الهَاءِ، وَ "الزَّهَرَةُ" بِفَتْحِ الهاءِ، مِثْلُ: "نَهْرٍ"، و "نَهَرٍ"، مَا يَرُوْقُ لَكَ مِنَ النَّوْرِ. ويُوصَفُ السِّرَاجُ بِأَنَّهُ زَاهِرٌ، بالنَّظَرِ إِلى بَرِيقِهِ، والأَنْجُمُ الزُّهْرُ هِيَ البرَّاقةُ المُضِيئَةُ، وَرَجُلٌ أَزْهَرُ: مُضيءُ الوجْهِ نَيِّرُهُ، وَامْرَأَةٌ زَهْرَاءُ كَذَلِكَ. وَالزَّهْرَةُ: وَاحِدَةُ الزَّهْرِ، وَهُوَ نَوْرُ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ، واسْمُ أَشَدِّ النُّجومِ إِضَاءةً. وَتُسْتَعَارُ لِلزِّينَةِ الْمُعْجِبَةِ الْمُبْهِتَةِ، لِأَنَّ مَنْظَرَ الزَّهْرَةِ يُزَيِّنُ النَّبَاتَ وَيُعْجِبُ النَّاظِرَ، والزُهْرَةُ ـ بضَمِّ الزَّايِ: البَياضُ. وزَهَرَتِ النَّارُ زُهُورًا: أَضَاءَتْ، وأَزْهَرْتُها أَنَا: أَضْرَمْتُها فأَضَاءَتْ. وَالثَوْرُ الوحشيُّ أَزْهَرَ، وبَقَرَتُهُ زَهَرَاءَ، قَالَ الشَّاعِرُ قَيْسُ بْنُ الخَطِيم:
تَمْشي كَمَشي زَهْراءَ في دَمَثِ ......... رَوْضِ إِلَى الحَزْنِ دُونَهَا الجُرُفُ
وَأَزْهَرَ النَبْتُ: ظَهَرَ زَهْرُهُ. والمِزْهَرُ: مَعْروفٌ يُضْرَبُ بِهِ لِضَبْطِ الإِيقاعِ. وَالازْدِهارُ: السَّعَةُ والوَفْرَةُ، والاحْتِفَاظُ بِالْشَّيْءِ، فَزَهْرَةُ الْحَيَاةِ: زِينَةُ الْحَيَاةِ، أَيْ زِينَةُ أُمُورِ الْحَيَاةِ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْأَنْعَامِ وَالْجَنَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْبَنِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الْقَصَص: {وَمَا أُوتيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها} الآيةَ: 60.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "زَهْرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا" قَالَ: زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَهُوَ مَا تَخَوَّفَ مِنْهُ سيِّدُنا رَسُولُ اللهِ عَلَى أُمَّتِهِ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ مِنْ أَخَوَفِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يَفْتَحِ اللهِ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا)). قَالُوا: وَمَا زهرَة الدُّنْيَا يَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((بَرَكَاتُ الأَرْضِ)).
قولُهُ: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لِنَفْتِنَهُمْ: أَيْ لِتْضْطَّرِبَ فيهِ نُفوسُهُمْ، وَيَتَبَلْبَلَ بَالُهُمْ مِنْ الخَوْفِ وَتَوَقُّعِ الْتِوَاءِ الْأُمُورِ بهِمْ، فَلِشِرْكِهِمْ يَقْذِفُ اللهُ فِي قُلُوبِهِمُ الْغَمَّ والهَمَّ وَتَوَقُّعَ الفَقْرِ والفَقْدِ. هَذَا فِي الدُّنيا، أَمَّا فِتْنَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فظَاهِرَةٌ. وَ "فَيهِ" هُنَا لِلظَّرْفِيَّةُ الَّتِي تُفيدُ الاستمرارَ والدوامَ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ} الآيَةَ: 5. فَقَالَ: "ارْزُقُوهُمْ فِيهَا" وَلَمْ يَقُلْ "مِنْهَا" لِلْإِشارَةِ إِلَى أَنَّ الرِّزْقَ لَا يُقْتَطَعُ مِنْهَا، بَلْ يُتَّجَرَ فِيهَا وَيُعْمَلُ لِتَكونَ النَّفَقَةُ مِنَ الرِّبحِ وَالكَسْبِ لَا مِنْ أَصْلِ المَالِ، حَتَّى يستَمِرَّ ذَلِكَ وَيَدُومَ، أمَّا إِذَا كانَتِ النفقةُ مِنْ أَصْلِ المالِ فإنَّهُ لا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْفَدَ المالُ وتنقَطِعَ النفقةُ، وكَذلِكَ هِيَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ:
نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وُنُهِينُهَا ................. وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ" قَالَ: لِنَبْتِلِيَهُمْ فِيهِ.
قولُهُ: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ سُبْحانَهِ: "وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى"، يَقُولُ: رِزْقُ الْجنَّةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى" قَالَ: مِمَّا مُتِّعَ بِهِ هَؤُلَاءِ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا.
وَهَذِهِ الجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ للآيةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ "وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ" إِلَى آخِرِهِ يُفِيدُ أَنَّ مَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ حُسْنِ شَارَتِهِمْ مَشُوبٌ بِفِتْنَةٍ فِي النَّفْسِ وَمُبَطَّنٌ بِشَقَاءٍ فِي الْعَيْشِ خلالَ حياتِهِم في الدُّنيا، وَعِقَابٍ فِي الْآخِرَةِ عَلَيْهِ، ولذلكَ فَقدْ ذُيِّلَ بِأَنَّ الرِّزْقَ الْمُيَسَّرَ مِنَ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنيا ـ وإنْ كانَ قليلًا، فهوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ الكَثيرِ الذي عندَ الكَفَرةِ، وَأَبْقَى لَهُمْ فِي الآخِرةِ، لأَنَّ مَنْفَعَتَهُ مُسْتَمِرَّةٌ فِي الْآخِرَةِ بَاقِيَةٌ لِمَا يُقَارِنُهُ مِنَ الشُّكْرِ عَلَيْهِ منهم فِي الدُّنْيَا. فَإِضَافَةُ الرِّزْقِ إِلَى مَقَامِ الرُّبوبيَّةِ ضَمَانٌ لاسْتمْرارِه، لِأَنَّ الرَّازِقَ هُوَ الرَّبُّ الجَوادُ الكَريمُ الغَنِيُّ القَادِرُ الكَفيلُ، وَإِضَافَةُ المُخَاطَبِ إلى الذَّاتِ العَلِيَّةِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، وَإِلَّا فَإِنَّ الرِّزْقَ كُلَّهُ مِنَ اللهِ، وَلَكِنَّ رِزْقَ الْكَافِرِينَ لَمَّا خَالَطَهُ خوفُ الفقدِ، وَحَفَّ بِهِ حَالُ أَصْحَابِهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ عَلَيْهِمْ، جُعِلَ كَالْمَنْسُوبِ إِلَى غَيْرِ اللهِ، وَجُعِلَ رِزْقُ اللهِ هُوَ السَّالِمُ مِنْ مُلَابَسَةِ الْكُفْرَانِ وَمِنْ تَبِعَاتِ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّبِعَةِ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِكُفْرَانِهِمُ النِّعْمَةِ، وعَدَمِ شُكْرِهِمُ اللهَ عَلَيْها.
و "خَيْرٌ" تَفْضِيلٌ، وَالْخَيْرِيَّةٌ ـ هنا، حَقِيقَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَوَاحِيهَا. فَمِنْهَا: خَيْرٌ لِصَاحِبِهِ فِي الْعَاجِلِ، شَرٌّ عَلَيْهِ فِي الْآجِلِ، وَمِنْهَا خَيْرٌ مَشُوبٌ بِشُرُورٍ وَفِتَنٍ، وَخَيْرٌ صَافٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمِنْهَا مُلَائِمٌ مُلَاءَمَةً قَوِيَّةً، وَخَيْرٌ مُلَائِمٌ مُلَاءَمَةً ضَعِيفَةً، فَالتَّفْضِيلُ والوصْفُ بالخَيْرِيَّةِ بِاعْتِبَارِ تُوَفُّرِ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ وَالْفِتَنِ كَالْمَقْرُونِ بِالْقَنَاعَةِ، فَتَفْضِيلُ الْخَيْرِيَّةِ جَاءَ مُجْمَلًا يَظْهَرُ بِالتَّدَبُّرِ.
وَ "أَبْقى" تَفْضِيلٌ ثانٍ لِمَا رَزَقَهم رَبُّهم عَلَى مَا مُتِّعَ بِهِ الْكَافِرُونَ مِنْ نِعَمٍ، لِأَنَّ فِي رِزْقِ الْكَافِرِينَ بَقَاءً، وَهُوَ أَيْضًا يَظْهَرُ بَقَؤُهُ بِالتَّدَبُّرِ فِيمَا يَحِفُّ بِهِ وعَوَاقِبِهِ، لكِنَّ رزقَ المُؤْمِنِينَ "أَبْقَى" مِنْ رِزْقِ الكَافِرينَ بِضَمَانِ رَبِّ العالمينَ ـ سُبحانَهُ وَتَعَالى لَدوامِهِ واسْتِمْرَارِهِ وَعُمُومِ منفعَتِهِ. وخاصَّةً مَا كانَ مِنْهُ رزْقًا لِطُلَّابِ العِلْمِ، لِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ تَكَفَّلَ اللهُ بِرِزْقِهِ)). أَخْرَجَهُ الْمُرْهِبِيُّ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ عَنْ زِيَادٍ الصَّدْعِيِّ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ غَدَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ أَظَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ، وَبُورِكَ لَهُ فِي مَعِيشَتِهِ، وَلَمْ يُنْقَصْ مِنْ رِزْقِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ مُبَارَكًا)).
وفي أَسْبَابِ نزولِ هَذِهِ الآيةِ الكريمةِ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ زَاهَوَيْهِ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَبَرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والخَرَائطيُّ، فِي "مَكَارِمُ الْأَخْلَاق"، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي "الْمَعْرِفَة" عَنْ أَبي رَافِعٍ القبطِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مَوْلَى سَيِّدِنا رسولِ اللهِ ـ عَلَيْهِ صلواتُ اللهِ وسَلَامُهُ، قَالَ: أَضَافَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ضَيْفًا، وَلم يكن عِنْد النَّبِي ـ عَلَيْهِ أفضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ، مَا يُصْلِحُهُ، فَأَرْسَلَنِي إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، أَنْ بِعْنَا أَوْ أَسْلِفْنَا دَقِيقًا إِلَى هِلَالِ رَجَبَ. فَقَالَ: لَا .. إِلَّا بِرَهْنٍ. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ، أَمِينٌ فِي الأَرْضِ، وَلَوْ أَسْلَفَنِي، أَوْ بَاعَنِي، لَأَدَّيْتُ إِلَيْهِ. اِذْهَبْ بِدِرْعِي الْحَدِيدِ. فَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِه الْآيَةُ: "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم"، كَأَنَّهُ يُعَزِّيهِ عَنِ الدُّنْيَا. وَأخَرجَهُ الواحديُّ في "أَسْبَابُ النُّزُولِ" لَهُ: (ص: 313)، وَأَوْرَدَهُ الهَيْثَمِيُّ فِي "مَجْمَعُ الزَّوائِدِ": (10/126)، وَقَالَ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ والبَزَّارُ.
قولُهُ تَعَالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا} الواوُ: عاطِفَةٌ، و "لَا" نَاهِيَةٌ جَازِمَةٌ. و "تَمُدَّنَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ لِاتِّصَالِهِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ: "أنتَ" يَعُودُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ. و "عَيْنَيْكَ" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ مُثنَّى وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "إِلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَمُدَّنَّ"، و "ما" اسمٌ مَوصولٌ بمعنى "الذي" مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، والجملةُ معطوفةٌ عَلى جُمْلَةِ {فَاصْبِرْ على ما يقولونَ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها عَلى كَوْنِها في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقَوْلِ.
قولُهُ: {مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرةَ الحياةِ الدُّنْيا} مَتَّعْنَا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتَّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ. و "بِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "مَتَّعْنَا"، وَهُوَ العائدُ عَلَى "مَا" المَوْصُولَةِ أَوِ المَصْدَرِيَّةِ، والجُمْلَةُ صِلَةٌ لها. و "أَزْوَاجًا" مَفْعُولُ "مَتَّعْنَا" الأوَّلُ مَنْصوبٌ بِهِ. وَ "مِنْهُمْ" مِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "أَزْوَاجًا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ. وَيَجوزُ أَنْ يُنْصَبَ "أَزْوَاجًا" عَلَى الحَالِ مِنَ الهَاءِ فِي "بِهِ" فَيَكونَ قدْ رَاعَى لَفْظَ "ما" مَرَّةً، وَرَاعَى مَعْنَاهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَلِذَلِكَ جَمَعَ. ويكون "منهم" مُتَعَلِّقًا بِـ "مَتَّعْنَا"، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَكونُ الفِعْلُ وَاقِعًا عَلَى "مِنْهُمْ" كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَى الَّذي مَتَّعْنَا بِهِ وَهُوَ أَصْنَافُ بَعْضِهم وَنَاسًا مِنْهُمْ. و "زَهْرَةَ" مفعولُ "مَتَّعْنَا" الثاني مَنْصوبٌ بِهِ بِتَضمينِ "مَتَّعْنا" مَعْنَى "أَعْطَيْنا". وَيَجوزُ أَنْ يَكونَ نَصْبُهُ على البَدَلِ مِنْ "أَزْواجًا"، وَذَلِكَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أَيْ: ذَوِي زَهْرَةٍ، أَوْ عَلَى المُبَالَغَةِ، فَقدْ جُعِلُوا نَفْسَ الزَّهْرَةِ مُبَالَغَةً. ويجوزُ أَنْ يَكونَ نَصْبُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قولُهُ: "مَتَّعْنا" والتَّقْديرُ: جَعَلْنَا لَهُمْ زَهْرَةً. ويجوزُ أَنْ يكونَ النَّصْبُ عَلَى الذَّمِّ، أَيُّ: عَلَى الاخْتِصاصِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ نَصْبُهُ على البَدَليَّةِ مِنْ مَوْضِعِ "ما" المَوْصُولِةِ. وَاعْتَرَضَ بعْضُهُم بِأَنَّ قوْلَهُ "لِنَفْتِنَهُمْ"، مِنْ صِلَةِ "مَتَّعْنا" فَيَلْزَمُ الفَصْلُ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالمَوْصُولِ بِأَجْنَبِيٍّ. وَهُوَ اعْتِرَاضٌ حَسَنٌ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ النَّصْبُ عَلى البَدَلِ مِنْ مَحَلِّ "بِهِ". ويَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلى الحالِ مِنْ "مَا" المَوْصُولَةِ. أوْ عَلى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الهَاءِ فِي "بِهِ" وَهُوَ ضَمِيرُ المَوْصُولِ، فَهُوَ كَالَّذي قَبْلَهُ فِي المَعْنَى، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَقَعُ الحالُ معرفةً؟ فالجَوَابُ أَنْ تَجْعَلَ "زَهٍرَةَ" مُنَوَّنَةً نَكِرَةً، وإِنَّمَا حُذِفَ التَّنْوينُ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ ومنْهُ قَوْلُ أَبي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ:
فألفيتُهُ غيرَ مُسْتَعْتَبٍ ......................... وَلَا ذَاكرَ اللَّهَ إلَّا قَليلا
فإنْ قيلَ: فَفيمَ جُرَّتِ "الحَيَاةِ" إِذًا؟. فالجَوابُ: جُرَّتْ عَلى البَدَلِيَّةِ مِنْ "ما" المَوْصُولَةِ. وَقَالَ الفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يكونَ النَّصْبُ عَلَى التَّمْييزِ لِـ "ما" أَوْ للهَاءِ في "بِهِ"، وَرَدُّوا ذلكَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ، والمُمَيِّزُ لَا يَكُونُ كذلِكَ. وَهَذَا غَيْرُ لَازمٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَعْريفُ التَمْيِيِزِ عَلى أُصُولِ الكُوفِيِّينَ. أَخيرًا قيلَ: هُوَ منصوبٌ على أَنَّهُ صِفَةٌ لِـ "أَزْواجًا" بِالتَّأْوِيلَيْنِ المَذْكُورَيْنِ فِي نَصْبِهِ الحالٍ. وَقَدْ مَنَعَ العُكْبُريُّ هَذَا الوَجْهَ بِكَوْنِ المَوْصُوفِ نَكِرَةً، وَالوَصْفِ مَعْرِفَةً، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجابَ عَنْ هَذَا بِمَا أُجِيبَ في تَسْويغِ نَصْبِهِ على الحالِ، أَيْ: حَذْفِ التَّنْوينِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. و "زهْرةَ" مُضافٌ، وَ "الحَيَاةِ" مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْه. و "الدُّنْيَا" صِفِةٌ لـ "الحياةِ" مَجْرُورَةٌ مِثْلَها، وعلامةُ جَرِّها كَسْرَةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرِها، لتعذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ.
قَوْلُهُ: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لِنَفْتِنَهُمْ: اللامُ: هِيَ لَامُ "كَيْ" للجَرِّ والتَّعْليلِ، مُتَعَلِقٌ بِـ "مَتَّعْنَا"، وَ "نَفْتِنَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ لَامِ "كي"، وَفَاعِلُهُ: ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ "نَحْنُ" يَعُودُ عَلى اللهِ تَعَالى، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بهِ عَلى أَنَّهُ مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. و "فِيهِ" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَفْتِنَهُمْ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وجُمْلَةُ "نَفْتِنَهُمْ" الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ الحَرْفِيِّ المُضْمَرِ "أَنْ" فَلَيسَ لَهَا محلٌّ مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} الوَاوُ: اسْتِئنافيَّةٌ، أَوْ حاليَّةٌ، وَ "رِزْقُ" مرفوعٌ بالابتداءِ مُضافٌ، و "رَبِّكَ" اسْمٌ مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ، وهو مُضافٌ أَيْضًا، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. و "خَيْرٌ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ. وَ "أَبْقَى" مَعْطوفٌ عَلَى "خَيْرٌ" مرفوعٌ مِثْلُهُ، وعلامةُ رَفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، ويجوزُ أَنْ تكونَ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ فَاعَلِ "تَمُدَّنَّ" والتقديرُ: وَلَا تمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما متَّعنا بهِ أزواجًا منهم زهْرةَ الحياةِ الدُنيا والحالُ أنَّ رٍزقَ ربِّكَ خيرٌ وأَبقى.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {زَهْرَةَ} بِسُكُونِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الحَسَنُ، وأبو البَرَهْسَمِ الحِمْصيُّ، عُمْرَانُ بْنُ عُثْمَانَ الزُّبَيْدِيُّ، وأَبُو حَيَوَةَ ويعقوبُ بفتحِها، وهي لُغَةٌ، كَ "جَهْرَة" و "جَهَرَة". وأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكونَ جَمْعَ زَاهِرٍ ك "فاجِر" و "فَجَرة" و "بارّ" و "بَرَرَة".
قَرَأَ الجُمهورُ: {لِنَفتِنَهم} بفتحِ النُّونِ، وَقَرَأَ نَافِعٍ "لنُفْتِنَهم" بِضَمِّها، مِنْ أَفْتَنَهُ إِذَا أَوْقَعَهُ فِي الفِتْنَةِ، رَوَاهُ عَنْهُ الأَصْمَعِيُّ.