وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى
(127)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ الجَزَاءِ المُوُافِقِ للجِنَايَةِ "نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ" بِالانْهِمَاكِ فِي الشَّهَوَاتِ والمَلَذَّاتِ، وَالإِعْراضِ عَنِ الحُجَجِ وَالآياتِ. وَقِيلَ: أَسْرَفَ بالشِّركِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ" قَالَ: مَنْ أَشْرَكَ.
قوْلُهُ: {وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ} بَلْ أَعْرَضَ عَنْها، وكَذَّبَ بِهَا، بَدَلَ أَنْ يُؤمِنَ، وَلَمْ يَعْمَلْ بها، وَلَمْ يُذْعِنْ. وَذَلِكَ الْجَزَاءَ إِنَّما هُوَ لِعَدَمِ الإيمانِ، لِإِسْرَافِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بالْمَعَاصِي والطُّغْيَانِ، وَبَيَّنَ فِي الآيَةِ: 43، مِنْ سُورةِ (غَافِر) أَنَّ جَزَاءَ الْإِسْرَافِ النَّارُ، فقَال: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}، وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ أَنَّ ذَلِكَ العذبَ إِذَا هُمْ لَمْ يَتُوبوا إِلَيْهِ وَيُنِيبُوا فقَال ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ الْآيَتَان: (53 و 54).
قولُهُ: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} وَلَعَذَابُ نارِ جَهَنَّمَ في الآخِرَةِ أَشَدُّ مِنَ عَذَابِاتِ الحَيَاةِ الدُّنْيا وَضَنْكِ العيشِ فِيها، ومِنَ العَمى يَوْمَ القيامةِ والحْشَرِ إِلَيْها، وَأَطولُ مِنْهُ دَيْمُومَةً وَبَقَاءً.
وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى بقَوْلِهِ أَيْضًا: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ} الآية: 13، مِنْ سورةِ الرَّعْدِ، وَقَوْلِهِ: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} الآية: 16، مِنْ سُورَةِ: فُصِّلتْ. وَقَالَ مِنْ سُورةِ القَلَمِ: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} الآية: 33.
فقد جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي خَلقِهِ بِأَنْ يُجازِيَ كُلًا بِمَا يَليقُ بِحَالِهِ، وَمَا أَسْلَفَهُ مِنْ عمَلِهِ لِنَفْسِهِ، فَإنَّهُ ـ لَا شَكَّ، مُلاقٍ عَلَى الخَيْرِ عَدْلَهُ، وَعَلَى الشَرِّ مِثْلَهُ.
قولُهُ تَعَالى: {وَكَذَلِكَ} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "كَذَلِكَ" الكافُ: حَرْفُ جَرٍّ للتَشْبيهِ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ. وَ "ذَا" اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلَّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، واللَّامُ للبُعِدِ، والكافُ الثانيةُ للخِطَابِ. وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَىِ جُمْلةِ قولِهِ "كذلكَ" مِنَ الجملةِ التي قبلَها على كونِها مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قَالَ".
قولُهُ: {نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} نَجْزِي: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِه مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامَةُ رَفعِهِ ضَمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِها عَلَى الياءِ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوبًا تقدرُهُ (نَحْنُ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى "الَّذي" مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ. وَ "أَسْرَفَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ" وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوْصولِ "مَنْ" لا محلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، وَجُمْلَةُ "نَجْزي" الفِعْلِيَّةِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {أَتَتْكَ} عَلَى كَوْنِهَا مَقُولَ "قَالَ".
قوْلُهُ: {وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ} الوَاوُ: عاطَفةٌ، و "لَمْ" حَرْفُ جَزْمٍ ونَفْيٍ وقَلْبٍ. وَ "يُؤْمِنْ" فعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لَمْ"، وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "مَنْ". و "بِآيَاتِ رَبِّهِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُؤْمِنْ"، و "آيَاتِ" مَجْرُورٌ بحرْفِ الجَرِّ مُضَافٌ، و "رَبِّهِ" اسْمٌ مَجْرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، ومُضافٌ أَيضًا، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَسْرَفَ" عَلَى كَوْنِهَا صِلَةَ الاسْمِ المَوصولِ "مَنْ" لا مَحلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} الواوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، وَ "لَعَذَابُ" اللَّامُ: حَرْفُ ابْتِداءٍ للتَّوْكيدِ، وَ "عَذَابُ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، مُضَافٌ، و "الآخِرَةِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "أَشَدُّ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ. و "وَأَبْقَى" الواوُ: للعَطْفِ، و "أَبْقَى" مَعْطُوفٌ عَلَى "أَشَدُّ"، مرفوعٌ مِثْلُهُ، وعلامَةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظُهُورِها عَلَى الأَلِفِ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.