قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا} أَيْ: قُلْ للمُشْرِكِينَ والكُفَّارِ، والجاحدينَ المُكابِرينَ المُعَانِدينَ مِنْ أَهْلِ الكتابِ الذينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِأَنَّ القُرْآنَ الكَريمَ هوَ كِتابٌ كريمٌ مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، أَنْزَلَهُ عَلى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: "آمِنُواْ بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا" فإِنْ إِيمانَكُمْ بِهِ لَا يَزيدُهُ كَمَالًا، وامْتِنَاعَكمْ مِنَ الإيمانِ بِهِ لَا يُورِثُهُ نَقْصًا، قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "قُلْ" لِأَهْلِ مَكَّةَ، "آمِنُوا" بِالقُرْآنِ، "أَوْ لَا تُؤْمِنُوا". وَهَذَا تَهْديدٌ؛ أَيْ: فَقَدْ أَنْذَرَ اللهُ وَوَعَدَ، وبَلَّغَ الرَّسُولُ، فَاخْتَارُوا مَا تُريدونَ، كَمَا قالَ في سُورةِ النَحْلِ: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} الآيَةَ: 55. تَفْسيرُ (جَامُعُ البَيَانِ فِي تَأْويلِ القُرْآنِ) للطَّبَرِيِّ: (15/180)، والتَّفْسِيرُ الوَسِيطُ للوَاحِدِيِّ: (2/559).
والخِطَابُ لِسَيِّدنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، ويَجُوزُ أَنْ يَعُمَّ كلَّ داعيةٍ إلى دين اللهِ ـ سبحانهُ وتَعَالَى، يدعوا إلى الفضيلةِ، ويُقَارِعُ الحُجَّةَ بالحجَّةِ.
قولُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} أَيْ: إِنَّ العُلَمَاءَ العاملينَ، المؤمنينَ الصَّادِقِينَ المُتَّقِينَ، الذَينَ قَرَؤوا الكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ السابِقَةَ، آمَنُوا بِهِ مِنْ قَبْلِ تَنْزِيلِهِ، لأنَّهُ مَذْكورٌ في كُتِبِهمُ، وقدْ أَخَذَ عَلَيهمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ العَهْدَ بِذَلِكَ، قالَ تَعَالى مِنْ سورةِ آلِ عِمرانَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِين} الآيةَ: 81، فقدْ عَرَفوا حَقِيقَةَ الوَحْيِ وَأَمَارَاتِ النُّبُوَّةِ، وَتَمَكَّنُوا مِنَ التَمْيِيزِ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وعَرَفوا المُحِقَّ والمُبْطِلِ، وَرَأَوا نَعْتَكَ في كُتُبِهم، وَنَعْتَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: "إِنَّ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ" هُمْ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حِينَ سَمِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "مِنْ قَبْلِهِ" مِنْ قَبْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "إِذا يُتْلَى" مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إِذا يُتْلَى عَلَيْهِم" قَالَ: كِتَابُهمْ.
قوْلُهُ: {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} لِذِلِكَ فإِنَّ هَؤُلاءِ العُلماءَ المُؤْمِنِينَ المُتَّقِينَ الصَّادِقِينَ، إذا يُتْلَى عَلَيْهِمْ شيْءٌ مِنْ آياتِ هَذَا الكِتابِ الكَريمِ، تَرَاهُمْ "يَخِرُّونَ إِلَى الأَذْقانِ سُجَّدًا". و "يَخِرُّونَ" أَيْ: يَسْقُطونَ، و "إِلى الأَذْقانِ"، أَيْ: عَلى وُجُوهِهِمْ. والأَذْقان: جَمْعُ ذَقَنٍ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ. وَ "سُجَّدًا" أَيْ: تَعْظيمًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالى، أَوْ شُكْرًا للهِ تَعَالَى عَلى إِنْجازِهِ مَا وَعَدَ بِهِ فِي تِلْكَ الكُتُبِ مِنْ بَعْثِكَ بالرِّسالَةِ الخاتِمَةِ، وخَصَّ الأَذْقانَ بِالذِّكْرِ لِلْدَّلالَةِ عَلى كَمَالِ التَذَلُّلِ، واللَّامُ للدَّلالَةِ عَلى اخْتِصاصِ الخُرُورِ بِهَا كَمَا قَالَ الشاعِرُ جَابِرِ بْنِ جِنِّي التَّغْلِبِيِّ:
تَنَاوَلَهُ بِالرُّمْحِ ثُمَّ انْثَنَى بِهِ ................... فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ
وَهُوَ تَعْليلٌ لِمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالى: "ءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ" مِنْ عَدَمِ المُبالاةِ بِذَلِكَ، أَيْ: إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَدْ آمَنَ بِهِ أَحْسَنَ إِيمانٍ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكم، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ تَعْليلًا لِـ "قُلْ" عَلى سَبيلِ تَسْلِيَةِ قلبِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: تَسَلَّ يا رَسُولَ اللهِ بِإِيمانِ العُلَماءِ الصادقينَ عَنْ إِيمانِ الجُهَلَاءِ المَوْتُورينَ، وَلا تَكْتَرِثْ بهم، ولا تحزنْ لإعْراضِهم وعَدَمِ إِيمانِهم.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عِبْدِ الْأَعْلَى التَّيْمِيِّ قَالَ: إِنَّ مَنْ أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يُبْكِيهِ لَخَلِيقٌ أَنْ قَدْ أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يَنْفَعُهُ، لِأَنَّ اللهَ نَعَتَ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالَ: "وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ".
وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سَعْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْ أَنَّ عَبْدًا بَكَى فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ لأَنْجَى اللهُ تِلْكَ الْأُمَّةَ مِنَ النَّارِ بِبُكَاءِ ذَلِكَ العَبْدِ. وَمَا مِنْ عَمَلٍ إِلَّا لَهُ وَزْنٌ وَثَوَابٌ إِلَّا الدَّمْعَةَ فَإِنَّهَا تُطْفِئُ بُحُورًا مِنَ النَّارِ. وَمَا اغْرَوْرَقَتْ عَيْنٌ بِمَائِهَا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ جَسَدَهَا عَلَى النَّارِ، وَإِنْ فَاضَتْ عَلَى خَدِّهِ، لَمْ يُرْهِقْ وَجْهَهُ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ. وَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ فِي "شُعَبِ الإِيمانِ" (1/495).
وَأَخرجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي "حِلْيَةِ الأَوْلِياءِ، مِنْ حَديثِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مَرْفوعًا: ((إِنَّ العَبْدَ لَيَمْرَضُ المَرَضَ فَيَرِقُ قَلْبُهُ، فَيَذْكُرُ ذُنُوبَهُ التي سَلَفَتْ مِنْهُ، فَيَقْطُرُ مِنْ عَيْنِهِ مِثْلُ رَأْسِ الذُّبابِ مِنَ الدَّمْعِ، فَيُطَهِّرُهُ اللهُ مِنْ ذُنُوبِهِ؛ فإِنْ بَعَثَهُ بُعِثَ مُطَهَّرًا، وإِنْ قَبَضَهُ، قَبْضَهُ مُطَهَّرًا)). حِلْيَةُ الأولياءِ لأَبِي نُعَيْمٍ: (5/240).
وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ أَبِي الْجَرَّاحِ، عَنْ أَبي حَازِمٍ الأَنْصارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّ النَّبِي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يَبْكِي، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: فُلَانٌ. قَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّا نَزِنُ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا إِلَّا الْبُكَاءَ، فَإِن اللهَ ـ سُبْحانَهُ، يُطْفِئُ بالدَّمْعَةِ نُهُورًا مِنْ نِيرانِ جَهَنَّمَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ الْجَعْدِ أَبي عُثْمَانَ اليَشْكُريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنْ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: إِلَهِي مَا جَزَاءُ مَنْ فَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَتِكَ؟ قَالَ: جَزَاؤُهُ أَنْ أُؤَمَّنَهُ يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ.
وَأَخْرجَ الإمامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: بلغنَا أَن دَاوُد ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: إِلهِي مَا جَزَاءُ مَنْ عَزَّى حَزينًا، لَا يُرِيدُ بِهِ إِلَّا وَجهَكَ؟ قَالَ: جَزَاؤُهُ أَنْ أُلْبِسَهُ لِبَاسَ التَّقْوَى. قَالَ: إِلهي مَا جَزَاءُ مَنْ شَيَّعَ جَنَازَةً لَا يُرِيدُ بِهَا إِلَّا وَجْهَكَ؟ قَالَ: جَزَاؤُهُ أَنْ تُشَيِّعَهُ مَلائكَتي إِذا مَاتَ، وَأَنْ أُصَلِّي عَلى رُوحِهِ فِي الْأَرْوَاحِ. قَالَ: إِلَهِي مَا جَزَاءُ مَنْ أَسْنَدَ يَتِيمًا أَوْ أَرْمَلَةً لَا يُرِيدُ بِهَا إِلَّا وَجْهَكَ؟ قَالَ: جَزَاؤُهُ أَنْ أُظِلَّهُ تَحْت ظِلِّ عَرْشِي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي. قَالَ: إِلهي مَا جَزَاءُ مَنْ فاضَتْ عَيْناهُ مِنْ خَشْيَتِكَ؟ قَالَ: جَزَاؤُهُ أَنْ أُؤَمِّنَهُ يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَأَنْ أَقِيَ وَجَهَهُ فَيْحَ جَهَنَّمَ. الزُّهْدُ: (1/379).
قوْلُهُ تَعَالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا} قُلْ: فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعْودُ عَلى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. و "آمِنُوا" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والألِفُ للتَّفْريقِ. وَ "بِهِ" الباءُ: حرْفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "آمِنُوا"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "أَوْ" حَرْفُ عَطْفٍ، وَتَفْصيلٍ. و "لا" نَاهِيَةٌ جازِمَةٌ. و "تُؤْمِنُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ بِـ "لا" النَّاهِيَةِ، وعلامةُ جزمِهِ حذْفُ النُّونِ مِنْ آخرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ. والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلةِ "آمِنُوا"، وجُمْلةُ "آمِنُوا بِهِ" في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مِنْ غَيْرِ سابِكٍ لإِصْلاحِ المَعنَى، مَرْفوعٌ عَلى كَوْنِهِ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذوفٌ، والتَقْديرُ: إِيمانُكم بِهِ، وَعَدَمُ إِيمانِكمْ بِهِ سَوَاءٌ عِنْدَنَا، لا نُبَالي بِكم، والجُمْلةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قُلْ".
قولُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ. و "الَّذِينَ" اسمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ النَّصْبِ، اسْمُهُ. و "أُوتُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمَجْهُولِ مَبْنيٌّ عَلى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوُ الجماعةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ نائِبًا عَنْ فاعِلِهِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ. وَ "الْعِلْمَ" منصوبٌ على أَنَّهٌ مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ للإيتاءِ، أَمَّا مفعولُهُ الأَوَّلُ فَقَدْ تحوَّلَ لنائبِ فاعلٍ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مِتَعَلِّقٌ بِـ بِمَحْذُوفِ حَالٍ مِنْ وَاوِ الجَمَاعَةِ، وَ "قَبْلِهِ" ظَرْفُ زمانٍ مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضِافَةِ إِلَيْهِ، وَهذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هيَ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ فَلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} إِذا: ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمانِ خافضٌ لِشَرْطِهِ مُتَعَلِّقٌ بجوابِهِ، مبنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ على الظَرْفيَّةِ الزمانيَّةِ. و "يُتْلى" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مبنيٌّ للمَجهولِ، مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ لناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرةٌ على آخِرِهِ لتعذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ. وَنائِبُ فَاعِلِهِ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى القُرْآنِ الكريمِ. و "عَلَيْهِمْ" عَلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "يُتْلَى"، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرْفِ الجَرِّ، والميمُ للجمْعِ المُذكَّرِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الخَفْضِ بِإِضافَةِ "إِذا" إِلَيْهَا، عَلَى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا.
قوْلُهُ: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} يَخِرُّونَ: فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، ووَاوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرفعِ بالفاعليِّةِ. و "لِلْأَذْقانِ" الامُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "يَخِرُّونَ" وَهَذِهِ اللامُ بِمَعْنَى "عَلَى"، أَيْ: يَخِرُّونَ عَلَى الأَذْقَانِ، وهوَ كَقَوْلِكَ: خَرَّ عَلى وجْهِهِ. ويَجوزُ أنْ تكونَ للاخْتِصاصِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فإِنْ قُلْتَ: حَرْفُ الاسْتِعْلاءِ ظاهِرُ المَعْنَى إِذَا قُلْتَ: خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَعَلى ذَقَنِهِ، فَمَا مَعْنَى اللَّامُ فِي (خَرَّ لِذَقْنَهِ وَلِوَجْهِهِ في قَولِ الشَّاعِرِ جَابِرِ بْنِ جِنِّي التَّغْلِبِيِّ:
تَنَاوَلَهُ بِالرُّمْحِ ثُمَّ انْثَنَى بِهِ ................... فَخَرَّ صَريعًا للْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ
قُلْتُ: مَعْناه: جَعَلَ ذقَنَهُ وَوَجْهَهُ للخُرورِ، وَاخْتَصَّ بِهِ؛ لِأَنَّ اللامَ للاخْتِصاصِ. وَقَالَ العُكْبُريُّ أَبُو البَقَاءِ: والثاني هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بـ: "يَخِرُّونَ" واللَّامُ عَلى بَابِهَا، أَيْ: مُذَلُّونَ لِلْأَذْقَانِ. وَ "سُجَّدًا" مَنْصُوبٌ عَلَى الحَالِ. وَجَوَّزَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ فِي "للأَذقان" أَنْ يَكونَ حَالًا فَقَالَ: أَيْ: سَاجِدينَ لِلْأَذْقانِ. وَكَأَنَّهُ يَعْنِي بِهِ "لِلْأَذْقانَ" الثانِيَةَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ المَعْنَى: سَاجدينَ للأَذْقانِ سُجَّدًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَالثالِثُ: أَنَّها ـ يَعْنِي اللّامَ، بِمَعْنَى "عَلَى"، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ حَالًا مِنْ "يَبْكُون" وَ "يَبْكُون" حَالٌ. وَجُمْلَةُ "يَخِرُّونَ" جَوَابُ "إِذَا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ "إِذا" مِنْ فِعْلِ شَرْطِهَا وَجَوَابِهَا فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لِـ "إِنَّ" وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلهَا، عَلَى كَوْنِهَا مَقُولَ "قُلْ" فلَا مَحَلَّ لَها مِنَ الإِعْرابِ أَيْ: إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ، فَقَدْ آمَنَ بِهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ.