فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
(72)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} التولي عن الأمرِ: الإعراضِ عَنْهُ، والأَجْرُ: العِوَضُ الذي يُعْطى لأجْلِ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ آخِذُ العِوَضِ. فَإِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ تَذْكِيرِي، وَأَدْبَرْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ تَوَلَّيْتُمْ، فَلاَ يَضُرُّنِي ذَلِكَ لأَنَّنِي لَمْ أَطْلُبْ مِنْكُمْ أَجْراً عَلَى نُصْحِي لَكُمْ، وهو اسْتِقْصاءٌ لِقَطْعِ مَعاذيرِهم. ومثلُ ذَلِكَ قولُهُ تعالى في سورة المائدة: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} الآية: 116.
قولُه: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ} إِنَّمَا أَطْلُبُ الأَجْرَ مِنَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ أيْ: فما جزاءُ عَمَلي وثَوابُ دَعْوَتي، إلاَّ عَلى رَبي الذي أَرْسَلَني إِلَيْكُم، فهو يُوفِيني إيَّاهُ، آمَنْتُمْ أَوْ تَوَلَّيْتُمْ. فإنَّهُ لا يَأْخُذُ على تَعليم الدينِ شيئاً. والأوْلِياءُ كالأنْبِياءِ مُتَعَيّنونَ لخِدْمَةِ الإرشادِ إلى اللهِ تعالى، ومَنْ لمْ يَأْخُذْ عِوضاً على إرشادِهِ فقد عَمِلَ عَمَلَ الأنبياءِ ـ عليهِمُ السلامُ. وقد تقدَّم أنَّ المتأخرون جوَّزوا أَخْذَ الأُجْرَةِ على التَعْليمِ والتَأْذينِ والإمامَةِ والخطابَةِ وغيرِ ذَلِكَ، لكن يَنْبغي للآخِذِ إخلاصُ النِيَّةِ في عَمَلِهِ وإلاَّ فقدْ جاءَ به الوَعيدُ.
قولُهُ: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وقد أَمَرَنِي بِأَن أَكُونَ ممن أسلَم وجهه لله مِنَ المُسْلِمِينَ، المُؤْمِنِينَ العَابِدِينَ القَائِمِينَ بِأَمْرِ رَبِّهِمْ. المُنْقادين لما أَدْعوكم إِلَيْهِ، الذين يجعلون أَعمالهم خالصةً للهِ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، لا يَأْخذونَ عليها أَجْرًا، ولا يَطْمَعون في عاجِلٍ، المُسْتَسْلمين لأمرِ اللهِ، صابراً على كلَّ مَكروهٍ يَصِلُ إليّ منكم، لأجلِ هذه الدعوة.
وقد أَمَرني اللهُ أَنْ أتَّبِعُ الدينَ الحقَّ ولو لوحدي. وفيه إشارةٌ بِأَنَّ إجماعَهم على التولي عَنْهُ لا يَفُلُّ حَدَّهُ ولا يَصُدُّهُ عَنْ مخالَفةِ دينِهم الضَلال.
قولُهُ تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فما سَأَلْتُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} الفاءُ: هي الفَصيحَةُ هنا؛ لأنها أَفْصَحَتْ عَنْ جوابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، تَقديرُهُ: إذا عَرَفْتُمْ ما قُلْتُهُ لَكم، وأَرَدْتمْ بَيانَ شَأْني فيما إذا تَوَلَّيْتم، فأَقُولُ لَكم، وهي أيضاً لِتَفْريعِ الكلامِ على الكلامِ فجُمْلَةُ الشَرْطِ وجوابُه مُفَرَّعتانِ على الجُمْلَتَيْنِ السابِقَتَيْنِ، ولمّا كانَ تَوَلِّيهم عَنْ دَعْوَتِهِ قدْ وَقَعَ واسْتَمَرَّ تَعَيَّنَ أَنَّ جَعْلَ التَوَلي في جملةِ الشَرْطِ مُرادٌ بِهِ ما كانَ حَصَلَ لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ جَوابُ الشَرْطِ الذي هوَ شيءٌ قدَ وَقَعَ أَيْضاً. و "إنْ" حَرْفُ شَرْطٍ. و "تَوَلَّيْتُمْ" فعلٌ وفاعلٌ في محلِّ الجزْمِ ب "إن" على أَنَّهُ فعلُ شَرْطٍ لها. و "فَمَا" الفاءُ رابِطَةٌ لجَوابِ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ وُجُوبًا، لكونِ الجوابِ مَقْرونًا ب "ما" النافيَةِ و "ما" هي النافيةُ، و "سَأَلْتُكُمْ" فعلٌ وفاعلٌ ومفعولٌ أَوَّل في محلِّ جَزْمِ جوابِ الشرطِ "إن"، و "مِنْ أَجْر" من: حرفُ جرٍّ زائدٍ و "أَجْرٍ" مجرورٌ به لفظاً، منصوبٌ محلاًّ على أنَّهُ مَفْعولٌ ثانٍ ل "سأَلَ"، والجارُّ ومجرورُهُ متعلّقٌ بجوابِ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ المحذوف، والتَقْديرُ: فإنْ تَوَلَّيْتُم، فلا ضَيْرَ عليّ؛ لأني ما سَأَلْتُكم عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، والفاءُ في "فما سَأَلْتُكُمْ" تَعْليلٌ للجَوابِ المحذوفِ، وجملةُ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ في محَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لجوابِ "إذَا" المُقَدَّرَةِ، وجملةُ "إذَا" المقدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ كونَها مَقولَ "قال".
قولُهُ: {إِنْ أَجْرِيَ إلاَّ على اللهِ} إنْ: نافِيَةٌ بمعنى "ما"، "أجري" مُبْتَدَأٌ مضافٌ، والياءُ: في محلِّ جرِّ مُضافٍ إِلَيْهِ. و "إِلاَّ" أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ. و "عَلَى اللهِ" جارٌّ ومجرورٌ خبرُ المُبْتَدَأِ، أو نقولُ متعلِّقٌ بخبرٍ محذوف تقديرهُ: "كائنٌ" أو نقولُ: متعلقٌ بالاستقرار، وكلُّها عباراةٌ تؤدّي معنىً واحداً، وإنَّما اختلفتْ فيه عباراتُ النُحاةِ. وجملةُ "إنْ أجري" في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ. وأتى بحرفِ "على" المفيدِ لِكَوْنِهِ حَقّاً لَهُ عَنْدَ اللهِ بوعدِهِ له.
قولُهُ: {وَأُمِرْتُ أنْ أكونَ مِنَ المسلمين} الواو: عاطفةٌ، و "أمرتُ" فعلٌ ماضٍ مبنيٍّ للمجهولِ، والتاءُ نائبُ فاعلٍ، وقد بُنيَ للمَجْهولِ في اللَّفْظِ للعِلْمِ بِهِ، إذْ مِنَ المَعْلومِ مِنْ سِياقِ الكَلامِ أَنَّ الذي أَمَرَهُ هوَ اللهُ تعالى، والجملةُ في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ، عَطْفاً على جملةِ الجوابِ، والتقديرُ: فإنْ تَوَلَّيْتم فَأُمِرْتُ أَنْ أَكونَ مِنَ المُسلمين، و "أَنْ" حرفٌ مصدريٌّ ناصِبٌ، و "أَكُونَ" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ مَنْصوبٌ بها، واسمُ "كان" ضميرٌ يعودُ عَلى "نُوحٍ" عليه السلامُ. و "مِنَ الْمُسْلِمِينَ} جارٌّ ومجرورٌ خبرُ "كَانَ" وجملَةُ "أَنْ" المصدريَّةُ مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مجرورٍ بحرْفِ جَرٍّ محذوفٍ، تقديرُهُ: وأُمِرْتُ بِكَوني مِنَ المُسْلِمين، والجارُّ المحذوفُ مُتَعَلِّقٌ ب "أَكُونَ".
قرأ العامَّةُ: {أجري} بِسُكون الياءِ، وقَرَأَ الأَعْرَجُ، وطلحةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وعيسى، وأَبو عَمْرٍو، بخلافٍ عنه، وابنُ عامرٍ، وحفْصٌ: "أَجْرِيَ" بِتَحْريكها.