مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ
(70)
قولُهُ ـ جلَّ ثناؤه: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} أَيْ: إِنَّهُمْ يَتَمَتَّعُونَ فِي الدُّنْيا الفَانِيَةِ، مُدَّةَ حَيَاتِهِم القَصِيرَةِ فِيها، وَمَتَاعُهُمْ فِيهَا قَلِيلٌ حَقِيرٌ. وهوَ اسْتِئْنافٌ بَيَانيٌّ، لأنَّ القَضَاءَ عَلَيْهِ بِعَدَمِ الفَلاحِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ سائلٌ: كيفَ نَراهُمْ في عِزَّةٍ وقُدْرَةٍ عَلى أَذَى المُسلمينَ، وصَدِّ النّاسِ عَنِ اتِّباعِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، فيُجابُ السائلُ بِأَنَّ ذلكَ تمتيعٌ في الدُنْيا لا يُعْبَأُ بِهِ، وإنَّما عَدَمُ الفَلاحِ مَظْهَرُهُ الآخِرَةُ، والمَتاعُ: المَنْفَعَةُ القَليلَةُ في الدُنْيا إذْ يُقيمونَ بِكَذِبهم سيادتَهم وعِزَّتَهم بَينَ قومِهم ثمَّ يَزولُ ذَلِكَ. وتَنْكيرُهُ مُؤْذِنٌ بِتَقْليلِهِ، وتَقْييدِهِ بِأَنَّهُ في الدُنيا مُؤَكِّدٌ للتَقْليلِ والزَوالِ.
قولُهُ: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} مَضْمُونُهُ هوَ حَقيقةُ أَنَّهم لا يُفْلِحونَ فهوَ أَهَمُّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَضْمونِ لا يُفْلِحون. وَمرْجِعُ: بمَعنى الرُجوعِ. ومعناهُ أنَّ الرُجوعَ إلى اللهِ وَقْتَ نَفاذِ حُكْمِهِ المُباشِرِ فِيهم.
قولُه: {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} ثُمَّ يُرْجَعُونَ إِلَى اللهِ فَيُذِيقَهُمْ فِي الآخِرَةِ العَذَابَ الشَّدِيدَ المُؤْلِمْ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللهِ الكَذِبَ فِيمَا ادَّعُوا مِنَ الإِفْكِ وَالبُهْتَانِ. وإذاقةُ العذابِ إيْصالُهُ إلى الإحْساسِ، وأَطْلَقَ عَلَيْهِ الإذاقَةَ لِتَشْبيهِهِ بحساسةِ الذَوْقِ في التَمَكُّنِ مِنْ أَقوى أَعْضَاءِ الجِسْم حِسّاً وهوَ اللسانُ.
قولُهُ تعالى: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} مَتَاعٌ: خبرٌ لِمُبْتَدأٍ محذوفٍ، تَقديرُهُ: حياتهم مَتَاعٌ، والجُمْلَةُ جَوابٌ لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ، فهي جملةٌ اسْتِئْنافِيّةٌ كأَنَّ قائلاً قالَ: كَيْفَ لا يَعْلَمونَ، وهمْ في الدُنيا مُفْلحونَ بِأَنْواعٍ ممَّا يَتَلَذَّذونَ بِهِ؟. فقِيلَ: ذَلِكَ مَتَاعٌ. ويجوزُ: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ والخَبَرُ محذوفٌ تقديرُهُ، لهم مَتَاعٌ، و "فِي الدُّنْيَا" يجوزُ في هذا الجارِّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِنَفْسِ "متاع"، أَيْ: تَمَتُّعٌ في الدُنْيا، ويجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بمحذوفٍ على أَنَّهُ نَعْتٌ لِ "مَتَاع" فهوَ في محلِّ رَفْعٍ. ولم يُقْرَأْ بِنَصْبِهِ هُنا، بخِلافِ قولِهِ: {متاعَ الحياة} في أَوَّلِ السُورَةِ.
قولُهُ: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} ثمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ للتَراخي الرُتَبي، و "إِلَيْنَا" الجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وقدْ تَقَدَّمَ على مُتَعَلَّقِهِ وهو "مَرْجِعُهم" لاستحضاره والاهْتِمامِ بالتَذْكيرِ بِهِ، و "مَرْجِعُهُمْ" مَصْدَرٌ ميميٌّ بمَعْنى "الرُجوع" وهوَ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، والجُمْلَةُ مَعْطوفةٌ على الجملَةِ مِنْ قولِهِ: "مَتَاع".
قولُه: {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} ثُمَّ: حرفُ عَطْفٍ كُرِّرَ تأكيداً لِنَظيرِهِ في الجُمْلةِ المُبَيِّنَةِ على أَنَّ المُرادَ بالمَرْجِعِ الحصولُ في نَفاذِ حُكْمِ اللهِ. و "نُذِيقُهُمُ" فعْلٌ مضارعٌ و "نحنُ" فاعلُهُ المقدَّرُ ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى، والهاءُ: مفعولُهُ الأوَّلُ، والميم للجمع المذكَّرِ، و "الْعَذَابَ" مفعولُهُ الثاني و "الشَّدِيدَ" صِفَةُ العذاب، ، والجملة معطوفةٌ على الجملة التي قبلها، و "بِمَا" الباءُ: حرْفُ جَرٍّ للسَبَبيَّةِ، و "ما" مَصْدَرِيَّةٌ. و "كَانُوا" كانَ: فعلٌ ناقصٌ، وواوُ الجماعة: اسمُه، وجملةُ، "يَكْفُرُونَ" خبرُهُ، وجملةُ "كَانَ" صِلَةُ "مَا" المصْدَرِيَّةِ. و "مَا" مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مجرورٍ بالباءِ، تقديرُهُ: بِسَبَبِ كونِهم كافرين، والجارَّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ ب "نذيق" واللهُ أعلم.
والجُمَلُ الأربعُ هيَ منَ المَقولِ المأمورِ بِهِ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، تبليغاً عنِ اللهِ تعالى.