أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
(51)
قولُهُ ـ تعالى ذِكْرُه: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} وَحِينَ يَقَعُ العَذَابُ يُعْلِنُونَ إِيمَانَهُمْ، وكما جاءَ في سُورَةِ السَجْدَةِ يقُولُونَ: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} الآية: 12. وفي الآيةِ زيادةٌ في تجهيلِهم وتَأْنيبِهم. وفيها إنْكارٌ لإيمانهم بِنُزولِ العَذابِ بَعْدَ وُقوعِهِ حَقيقةً، داخلٌ مَعَ ما قَبْلِهِ مِنْ إِنْكارِ اسْتِعْجالِهم بِهِ بَعْدَ إِتْيانِهِ حُكْماً تحتَ القَوْلِ المأْمورِ بِهِ، أَيْ: أَبَعْدَ ما وَقَعَ العَذابُ وحَلَّ بِكمْ حَقيقَةً آمَنْتُمْ بِهِ حَين لا يَنْفَعُكم الإيمانُ إنْكاراً لِتَأْخيرِهِ إلى هذا الحَدِّ وإيذاناً باسْتِتْباعِهِ للنَدَمِ والحَسْرَةِ لِيُقْلِعوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ العِنَادِ ويَتَوَجَّهوا نحوَ التَدارُكِ قبلَ فَوْتِ الوَقْتِ، فتَقديمُ الظَرْفِ للقَصْرِ، والمعنى: إِنَّكم أَيُّها الجاهِلونَ لَسْتُمْ بِصادقينَ فيما تَطْلُبونَ، لأنَّكم قَبْلَ وُقوعِ العَذابِ تَتَعَجَّلونَ وُقوعَهُ، فإذا ما وَقَعَ وشَاهَدْتمِ أَهْوالَهُ. وذُقْتُمْ مَرارَتَهُ، آمَنْتُمْ بِأَنَّهُ حَقٌّ، وتحوَّلَ اسْتِهْزاؤكمْ بِهِ إلى تَصْديقٍ وإذْعانٍ.
قولُهُ: {آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} يُقَرِّعُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَسْلَكِهِمْ هَذَا فَيَقُولُ لَهُمْ: أَآمَنْتُمْ بِهِ الآنَ حِينَمَا وَقَعَ، وقدْ كُنْتُمْ تَسْتَعْجِلونَ بِهِ تَكْذيباً واسْتِهْزاءً، وَكُنْتُمْ قَبْلاً تُكَذِّبُونَ بِهِ، وَتَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَتَسْتَعْجِلُونَ بِهِ؟ الآنَ تُؤْمِنُونَ بِوُقُوعِ العَذَابِ. وقَصَدَ بِهِ زِيادَةَ إيلامِهم وحَسْرَتهم. فإنَّ الإيمانَ لا يَنْفَعُ حِينَ حُلولِ عَذابِ اللهِ، ويُقالُ لهم تَوبيخًا وعِتابًا في تِلْكَ الحالِ التي زَعَمُوا أَنَّهم يُؤمِنونَ، "آلآنَ" تُؤمِنُونَ في حالِ الشِدَّةِ والمَشَقَّةِ؟ "وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ" فإنَّ سُنَّةَ اللهِ في عِبَادِهِ أَنَّه يُعْتِبُهم إذا اسْتَعْتَبُوهُ قبلَ وُقوعِ العَذَابِ، فإذا وَقَعَ العذابُ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها، كَما قالَ تَعالى عَنْ فِرْعَوْنَ، لما أَدْرَكَهُ الغَرَقُ: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وأَنَّهُ يُقالُ لَهُ: {الآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنْتَ مِنَ المُفْسِدين}سورة -يونس، الآية: 90 و 91.
قولُهُ تَعالى: { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} أَثُمَّ: الهمزة: للاستفهام الإنْكاري، داخلةٌ على محذوفٍ، تَقديرُهُ: أأخَّرتمُ الإيمانَ، والجملة المحذوفة مُسْتَأْنَفَةٌ و "ثمَّ" حرْفُ عَطْفٍ وتَرْتيبٍ وتَراخٍ، وقالَ الطَبَرِيُّ: و "أَثُمَّ" هذِهِ بِضَمِّ الثاءِ ليستِ التي بمَعنى العَطْفِ، وإنَّما هي بمعنى "هُنالِك". فإنْ كان قَصَدَ تَفْسيرَ المعنى فقد أَبهَمَ في قولِهِ وهوَ بَعيدٌ، لأنَّ هذا المَعنى لا يُعْرَفُ في "ثُمَّ" بِضَمِّ الثاءِ. و "إذَا" ظَرْفٌ لما يُسْتَقْبَلُ من الزمان. و "مَا" زائدةٌ. و "وَقَعَ" فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضَميرٌ يَعودُ على العَذابِ، والجُمْلةُ في محلِّ الخَفْضِ بإضافَةِ "إذا" على كونها فعلَ شَرْطٍ لها، والظَرْفُ مُتَعَلِّقٌ بالجوابِ الآتي. وجملةُ "آمَنْتُمْ" جَوابُ "إذا". و "به" الجارُّ مُتَعَلِّقٌ ب "آمَنْ"، وجملةُ "إذا" مَعْطوفَةٌ على الجُمْلَةِ المحذوفَةِ.
قولُهُ: {آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} الهمزة: للاستفهام التوبيخي, و "الآن" ظَرْفٌ للزَمانِ الحاضِرِ مَبْنيٌّ على الفَتْحِ، في محلِّ النَصْبِ على الظَرْفِيَّةِ، والظَرفُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ، تقديرُهُ: الآنَ تُؤمِنونَ، والجُمْلَةُ المحذوفَةُ مَقولٌ لِقَوْلٍ محذوفٍ، تقديرُهُ: وقيلَ لهم: الآن تؤمنون، والقول المحذوفُ مستأنَفٌ، ولا يجوزُ أَنْ يَعمَلَ فيه "آمنتم" الظاهرُ؛ لأنَّ ما قبلَ الاستفهام لا يَعْمل فيما بعدَه، كما أنَّ ما بعدَه لا يعملُ فيما قبلَه لأنَّ الاستفهامَ لَهُ صَدْرُ الكلام. و "قد" للتحقيق، و "كنتم" كانَ الفعلُ الناقِصُ واسمُه. و "بِهِ" الجارُّ مُتَعَلِّقٌ ب "تَسْتَعْجِلُونَ" وجملة "تَسْتَعْجِلُونَ" خبرُ "كَانَ" وجملةُ "كَانَ" في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ فاعلِ "تُؤمِنُونَ" المحذوف. وقالَ الزَمَخْشَرِيُّ: "وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ" يَعني تُكَذِّبون، لأنَّ اسْتِعْجالَهم كان على جِهَةِ التَكْذيبِ والإِنْكارِ. فَقد جَعَله مِنْ بابِ الكِنايَةِ لأنَّهُ دَلالةٌ على الشيْءِ بِلازِمِه نحو قولهم: "هوَ طويلُ النِّجادِ" كَنَايةً عَنْ طولِ قامَتِهِ؛ لأنَّ طولَ نِجادِه لازمٌ لِطُولِ قامَتِهِ وهو بابٌ من أبواب البلاغة.
قرأَ الجمهورُ: {ألآن} بهمزة استفهام داخلة على "الآن"، وقرأَ عيسى وطلحة: "آمنتم به الآن" بِوَصْلِ الهَمْزَةِ مِنْ غيرِ اسْتِفهامٍ، وعلى هذه القراءةِ فَ "الآن" مَنْصوبٌ ب "آمنتم" وهذا الظاهر.