روضة الشاعر عبد القادر الأسود
بعد الصلاة على الرحمة المهداة

أهلا وسهلا بك في روضتنا

يسرنا تسجيلك

روضة الشاعر عبد القادر الأسود
بعد الصلاة على الرحمة المهداة

أهلا وسهلا بك في روضتنا

يسرنا تسجيلك

روضة الشاعر عبد القادر الأسود
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

روضة الشاعر عبد القادر الأسود

منتدى أدبي اجتماعي يعنى بشؤون الشعر والأدب والموضوعات الاجتماعي والقضايا اللإنسانية
 
مركز تحميل الروضةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
بسـم الله الرحمن الرحيم  :: الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم ولا الضــالين ....  آميـــن

 

 فيض العليم .... سورة الأنعام، الآية: 91 ـ 92

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبد القادر الأسود

¤° صاحب الإمتياز °¤
¤° صاحب الإمتياز °¤
عبد القادر الأسود


عدد المساهمات : 3986
تاريخ التسجيل : 08/09/2011
العمر : 76
المزاج المزاج : رايق
الجنس : ذكر
فيض العليم .... سورة الأنعام، الآية: 91 ـ 92 Jb12915568671



فيض العليم .... سورة الأنعام، الآية: 91 ـ 92 Empty
مُساهمةموضوع: فيض العليم .... سورة الأنعام، الآية: 91 ـ 92   فيض العليم .... سورة الأنعام، الآية: 91 ـ 92 I_icon_minitimeالإثنين يناير 13, 2014 2:02 pm

وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ. (91)
لَمَّا حَكَى ـ سُبْحانَهُ ـ عن إبراهيمَ ـ عليْه السَّلامُ ـ أنَّهُ ذَكَرَ دَليلَ التوحيدِ وإبْطالِ الشِرْكِ، وقَرَّرَ ـ جَلَّ شأنُهُ ـ ذَلكَ الدَّليلَ بأوْضَحِ وَجْهٍ، شَرَعَ ـ سبحانَه وتعالى ـ في تقريرِ أَمْرِ النُبُوَّةِ، وبَيَّنَ شأنَ القُرآنِ العَظيمِ، وأَنَّهُ نِعْمَةٌ جَليلةٌ مِنهُ على كافَّةِ الأُمّمِ ـ بقولِه ـ عَزَّ وجَلَّ: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} الأنبياء: 107. وأعقَبَ ذلكَ ببيانِ غَمْطِهِم إيّاها وكُفْرِهِمْ بِها على وَجْهٍ سَرَى إلى الكُفْرِ بِجميعِ الكُتُبِ الإلهيَّةِ، لأَنَّ مَدارَ أَمْرِ القُرآنِ على إثْباتِ التَوحيدِ والنُبُوَّةِ والمَعادِ، وبِهذا تَرْتَبِطُ الآيةُ بما قبلَها.
قَوْلُهُ ـ سبحانَه وتَعَالَى: {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أَيْ مَا عَرَفَ اللهَ مُنْكِرُو الوَحْيِ، مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، حَقَّ مَعْرِفَتِهِ في اللُّطفِ والرَّحْمَةِ بعبادِهِ، وَلاَ عَظَّمُوهُ حَقَّ التَّعْظِيمِ الذِي يَسْتَحِقُهُ، إذْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ وَقَالُوا: "مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ"، فَقُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلاَءِ الكفّارِ المُنْكِرِينَ إِنْزَالَ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى البَشَرِ: مَنِ الذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، لِيَكُونَ نُوراً يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي كَشْفِ الغَوَامِضِ، وَحَلِّ المُشْكِلاَتِ، وَهُدىً يُهْتَدى بِهِ مِنْ ظُلَمِ الشُّبُهَاتِ؟
لأنَّهم يُقِرُّونَ بِأنَّ التَّوْرَاةَ مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَلَى رَسُولِهِ مُوسَى ـ عليه السلامُ، وبذَلِكَ تُقمُ عليهِمُ الحُجَّةَ بَأنَّ اللهَ يُنَزِّلُ الوَحْيَ وَالكُتُبَ عَلَى مَنْ يَخْتَارُ مِنْ خَلْقِهِ لِحَمْلِ رِسَالاَتِهِ إلى عبادِهِ.
وَكان مُشْرِكُو قُرَيشٍ قد أرسلوا وَفْداً إلَى المَدِينَةِ يَسْأَلُونَ أَحْبَارَ اليَهُودِ عَمَّا يَجِدُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ مُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ وَصِفَتِهِ، فَأنكرَ أَحْبَارُ اليهود قائلين: بأنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ عَنْهُ شَيْئاً. وَكان اليهودُ قَدْ اهْتَدَوا بِالتَّوْرَاةِ، وَصَارُوا خَلْقاً آخَرَ مُتَمَسِّكاً بِالحَقِّ وَالعَدْلِ، حَتَّى اخْتَلَفُوا، وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَجَعَلُوا كِتَابَهُمْ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا عِنْدَ الحَاجَةِ، فَكَانَ الحِبْرُ مِنْهم إذَا اسْتُفْتِيَ فِي مَسْأَلَةٍ لَهُ هَوًى فِي إِظْهَارِ حُكْمِ اللهِ فِيهَا، كَتَبَ ذَلِكَ الحُكْمَ فِي قِرْطَاسٍ، وَأَظْهَرَهُ لِلْمُسْتَفْتِي وَخُصُومِهِ. وَكَانُوا يُخْفُونَ كَثِيراً مِنْ أَحْكَامِ الكِتَابِ وَأَخْبَارِهِ، إذَا كَانَ لَهُمْ هَوًى وَمَصْلَحَةً فِي ذَلِكَ. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أنَّ الكِتَابَ كَانَ فِي أَيْدِي الأَحْبَارِ فقط، وَلَمْ تَكُنْ فِي أَيْدِي العَامَّةِ نَسَخٌ مِنْهُ، وَممّا أَخْفَاهُ اليَهَودُ حُكْمَ رَجْمِ الزَّانِي فِي المَدِينَةِ، كما أَخْفَوْا البِشَارَةَ الوَارِدَةَ فِي التَّوْرَاةِ بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، وَكَتَمُوا صِفَتَهُ عَنِ العَامَّةِ، وَصَرَفُوهَا إلى مَعَانٍ أُخْرَى بِالنِّسْبَةِ لِلْخَاصَّةِ، لِكَيْلاَ يَتْبَعَهُ اليَهُودُ وغيرُهم.
وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَنْ يَتَوَلَّى الجَوَابَ عَنْ هَذا السُّؤَالِ إذَا سَكَتَ الكُفَّارُ: وَلْيَقُلْ إنَّ الذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة هُوَ اللهُ، ثُمَّ عَلَيهِ أَنْ يَتْرُكَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ضِّلالِهم يَخُوضُونَ وَيَلْعَبُونَ كَالصِّبْيَانِ. فما قدروا اللهَ حقَّ قدرهِ فِيمَا وَجَبَ لَهُ وَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ وَجَازَ.
وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنْهُما: المَعنى أنَّهم: (مَا آمَنُوا أَنَّهُ عَلَى كلِّ شيءٍ قَدِيرٌ). وَقَالَ الْحَسَنُ: المعنى أنهم: (مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ). وَهو مِنْ قَوْلِهِمْ: لِفُلَانٍ قَدْرٌ. وَذَلك أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: "مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ" نَسَبُوا اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَى عِبَادِهِ، وَلَا يَأْمُرُهُمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ صَّلَاحٌ، فَلَمْ يُعَظِّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ وَلَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: المعنى أنَّهم: (مَا عَرَفُوا اللهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ). وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ، لِأَنَّ مَعْنَى قَدَرْتُ الشَّيْءَ وَقَدَّرْتُهُ عَرَفْتُ مِقْدارَهُ. ويَدُلَّ على ذلك قولُهُ تَعَالَى: "إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ" أَيْ لَمْ يَعْرِفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، إِذْ أَنْكَرُوا أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا. وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ. وَقَدْ قِيلَ: وَمَا قَدَرُوا نِعَمَ اللهِ حَقَّ تَقْدِيرِهَا.
قولُهُ: {إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: القائلون هم مُشْرِكو قُرَيْشٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الذي قالَهُ هو أَحَدُ اليَهودِ، قالَ: لم يُنَزِّلِ اللهُ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ السُّدِّيُّ: اسْمُهُ فِنْحَاصُ. وَقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، جَاءَ يُخَاصِمُ النَّبِيَّ فَقَالَ لَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَمَا تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ))؟ ـ وَكَانَ مالكُ حَبْرًا سَمِينًا ـ فَغَضِبَ وَقَالَ: وَاللهِ مَا أَنْزَلَ اللهُ على بَشَرٍ مِنْ شيْءٍ. فَقَالَ لَهُ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: وَيْحَكَ! وَلَا عَلَى مُوسَى؟ فَقَالَ وَاللهِ مَا أَنْزَلَ اللهُ على بَشَرٍ مِنْ شيْءٍ. فقد أَخرَجَ ابْنُ جَريرٍ والطَبَرانيُّ عنْ سعيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَّم ـ قال للحَبْرِ اليَهوديِّ مالِكِ بْنِ الصَيْفِ: ((أَنْشُدُكَ اللهَ الذي أَنْزَلَ التَوراةَ على مُوسى، هَلْ تَجِدُ فيها أَنَّ اللهَ تعالى يُبْغِضُ الحَبْرَ السَمينَ؟ فَأنْتَ الحَبْرُ السَمينُ، قد سَمِنْتَ مِنْ مالِكَ الذي يُطْعِمُكَ اليَهودُ)). فضَحِكَ القومُ، فغَضِبَ، فالْتَفَتَ إلى عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنه ـ فقالَ: ما أَنْزَلَ اللهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. فقالَ لَهُ قومُه: ما هذا الذي بَلَغَنا عَنْكَ؟ قال: إنَّهُ أَغْضَبَني، فَنَزَعوهُ وجَعَلوا مَكانَهُ كَعْبَ بْنَ الأَشْرَفِ، فأَنْزَلَ اللهُ تعالى هذه الآيَةَ. ثُمَّ قَالَ اللهُ تعالى نَقْضًا لِقَوْلِهِمْ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ: "قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً" أيْ تَجْعَلونَهُ في قَراطِيسَ، وهَذَا لِلْيَهُودِ الَّذِينَ أَخْفَوْا صِفَةَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ. وقالَ مُجاهِدٌ: قولُهُ تعالى: "قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى" خطابٌ للمُشركينَ، وقولُهُ: "تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ" لِلْيَهُودِ، وَقَوْلُهُ: "وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ" لِلْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا يَصِحُّ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: "يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ" بِالْيَاءِ وَالْوَجْهُ عَلَى قِرَاءَةِ التَّاءِ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ لِلْيَهُودِ، وَيَكُونَ مَعْنَى "وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا" أَيْ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، عَلَى وَجْهِ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ. وَجُعِلَتِ التَّوْرَاةُ صُحُفًا فَلِذَلِكَ قَالَ: "قَراطِيسَ تُبْدُونَها" أَيْ تُبْدُونَ الْقَرَاطِيسَ. وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ كَرِهَ الْعُلَمَاءُ كَتْبَ الْقُرْآنِ أَجْزَاءً.
وقد أخرجَ أبو الشَيْخِ عنْ سُفيانَ والكَلْبِيِّ أَنَّ هذهِ الآيةَ مَدَنِيَّةٌ، وفيه رَدٌّ على مَنْ قال بأنَّ هذِهِ السُورَةُ مَكِّيَّةٌ والمُناظَراتُ التي وَقَعتْ بيْنَ رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ وبيْنَ اليَهودِ كُلُّها مَدَنِيَّةٌ فلا يَتَأَتَّى القولُ بِأنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في اليَهودِ.
قولُهُ: {قُلِ اللهُ الَّذِي} أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ: اللهُ "الَّذِي" أَنْزَلَ ذَلِكَ
الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى وَهَذَا الْكِتَابَ عَلَيَّ. أَوْ قُلِ: اللهُ عَلَّمَكُمُ الْكِتَابَ.
قولُهُ: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أَيْ لَاعِبِينَ، وَلَوْ كَانَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ لَقَالَ يَلْعَبُوا. وَمَعْنَى هذا الْكَلَامِ التَّهْدِيدُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمَنْسُوخِ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ قيلَ: "تَجْعَلُونَهُ" فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: "نُوراً وَهُدىً" فَيَكُونُ فِي الصِّلَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَالتَّقْدِيرُ: يَجعلونَه ذا قَراطيسَ.
وقوله: {تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَرَاطِيسَ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ تُوصَفُ بِالْجُمَلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا حَسْبَما تَقدَّمَ.
قولُهُ تعالى: {حَقَّ قَدْرِهِ}: منصوبٌ على المَصدَرِ وهوَ في الأَصْلِ صِفَةٌ للمَصْدَرِ، فلمَّا أُضيفَ الوَصْفُ إلى مَوْصوفِهِ انْتَصَبَ على ما كان يَنْتَصِبُ عَليْهِ مَوْصوفُهُ، والأصْلُ: قَدْرَهُ الحَقَّ. وأَصْلُ القَدْرِ مَعْرِفَةُ المِقْدارِ بالسَبْرِ، ثمَّ استُعْمِلَ في مَعْرِفَةِ الشيءِ على أَتَمِّ الوُجوهِ حتّى صارَ حَقيقةً فيه، يُقالُ قَدَرَ الشَيْءَ يُقْدِرُهُ قَدْراً إذا سَبَرهُ وَأَرادَ أَنْ يَعْلَمَ مِقدارَهُ، قالَ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((إنْ غُمَّ عليكُمْ فاقْدروا لَهُ)). أيْ فاطْلُبوا أَنْ تَعْرِفوهُ، والمقصودُ الهلالُ للصومِ أوِ الإفْطارِ، ثمَّ قيلَ لِمَنْ عَرَفَ شَيْئاً هو يُقْدِرُ قَدْرَهُ، وإذا لَمْ يَعْرِفْهُ بِصِفاتِهِ إنَّهُ لا يُقْدِرُ قَدْرَهُ. وقرأَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ وعيسى الثقفيُّ: "قدَّروا" بتشديدِ الدّالِ، "حقَّ قَدَرِه" بتحريكِها، وقد تقدَّم أنَّهُما لُغَتانِ.
وقولُهُ: {إذْ قالوا} مَنْصوبٌ بِـ "قَدَرُوا" وجعلَهُ ابْنُ عطيَّةَ مَنْصوباً بـ "قَدْرِه"، وفي كلامِ ابْنِ عَطيَّةَ ما يُشْعِرُ بأنَّها للتَعليلِ. و"إِذْ" ظَرْفٌ للزَمانِ
مُتَعَلِّقٌ بـ "قدروا" كما قيل.
وقولُه: {مِن شيءٍ} مفعولٌ بِهِ زِيدَتْ فيهِ "مِنْ" لِوُجودِ شَرْطَيْ الزيادَةِ.
وقولُه: {نوراً} مَنْصوبٌ على الحالِ، وصاحبِ الحالِ الهاءُ في "به" فالعاملُ فيها "جاء". وإمّا الكتابُ، فالعامِلُ فيهِ "أَنْزلَ".
وقولُه: {للناسِ} مُتَعَلِّقٌ بِـ "هدى" أوْ بِمَحذوفٍ وَقَعَ صِفَةً لَهْ، أَيْ هُدًى كائناً للنّاسِ، والمُرادُ بِهِمْ بَنُو إسرائيلَ، وقيلَ: هُمْ وَمَنْ عَداهم، ومعنى كونِهِ هُدًى لَهم أَنَّه يُرْشِدُ مَنْ وَقَفَ عليْهِ بالواسطَةِ أَوْ بِدونِها إلى ما يُنْجيهِ، وهو الإيمانُ باللهِ تعالى ورسولِهِ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ.
وقولُهُ: {تَجْعلونه} يَقرؤه ابْنُ كثيرٍ وأبو عَمْرٍو بِياءِ الغَيْبَةِ، وكذلك "تُبْدونَها" و"تُخْفونَ"، والباقون يقرؤونَ بتاءِ الخِطابِ في ثَلاثَةِ الأَفعالِ، فأَمَّا الغَيْبَةُ فلِلْحَمْلِ على ما تَقَدَّمَ مِنَ الغَيْبَةِ في قولِهِ: "وما قَدَروا" إلى آخرِهِ، وعلى هذا فيكون قولُهُ: "وعُلِّمْتُم" خطابٌ لَهم أَيْضاً وإنَّما جاءَ به على طريقةِ الالْتِفاتِ. أو يَكونُ الخِطابُ للمُؤمنينَ، اعْتُرِضَ بِهِ بَيْنَ الأَمْرِ بِقَوْلِهِ: "قُلْ مَنْ أَنزَلَ" وبَيْنَ قولِهِ: "قُلِ الله".
وأمَّا قِراءةُ تاءِ الخِطابِ ففيها مُناسَبَةٌ لِقَوْلِهِ: "وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ" ورَجَّحَها مَكِيٌّ وجَماعةٌ، لِذلك قالَ مَكِيٌّ: وذلك أَحْسَنُ في المُشاكَلَةِ والمُطابَقَةِ واتِّصالِ بَعضِ الكلامِ ببعضٍ، وهو الاخْتِيارُ لِذلك، ولأَنَّ أَكْثَرَ القُرّاءِ عليْه. قالَ الشيخُ أبو حَيَّانَ: ومَنْ قالَ إنَّ المُنْكرينَ العَرَبُ، أوْ كُفَّارُ قُريْشٍ، لمْ يُمْكِنْ جَعْلُ الخِطابِ لَهم بَلْ يَكونُ قدِ اعْتُرضِ بِبَني إسرائيلَ فقالَ خِلالَ السؤالِ والجَوابِ "تَجْعَلُونَها قَراطيسَ"، ومثلُ هذا يَبْعُدُ وُقوعُهُ لأنَّ فيهِ تَفْكيكاً للنَّظْمِ حيثُ جَعَلَ أَوَّلَ الكلامِ خِطاباً للكُفَّارِ وآخرَه خِطاباً لليهودِ. وقدْ أُجيبَ عن ذلك بِأَنَّ الجَميعَ لَمَّا اشْتَرَكوا في إنْكارِ نُبُوَّةِ رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ جاءَ بعضُ الكلامِ خِطاباً للعَرَبِ وبَعْضُهُ خِطاباً لِبَني إسرائيلَ.
قولُهُ: {تَجْعلونَهُ قَراطِيسَ} يَجوزُ أَنْ تَكونَ "جَعَلَ" بِمَعنى صَيَّرَ، وأَنْ تَكُونَ بمَعنى أَلْقى، أيْ: تَضَعونَهُ في كاغِد. وهذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ: إمَّا مِنَ "الكِتابِ"، وإمَّا مِنَ الهاءِ في "بِهِ"، كما تقدَّمَ في "نوراً وهدى".
قولُه: {قَراطيسَ تُبْدونَها وتُخْفُونَ} منصوبٌ بنزعِ الخافِضَ (حَرْف الجَرِّ)، أيْ: (في قَراطيسَ وَوَرَقٍ)، فهُو شَبيهٌ بالظَرْفِ المُبْهَمِ فلِذلك تَعَدَّى إليْهِ الفِعْلُ بِنَفْسِهِ. أو أَنَّهُ منصوبٌ على حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: (تَجعلونَهُ ذا قَراطيسَ). أو أَنَّهم (نَزَّلوهُ مَنْزِلَةَ القَراطيسِ) ـ وقدْ تَقَدَّمَ تَفْسيرُ القَراطِيسِ ـ والجُمْلَةُ مِنْ قولِهِ: "تُبْدونَها" في مَحَلِّ نَصْبِ نَعتٍ لِـ "قَراطيسَ"، وأَمَّا "تُخْفون" فقال أبو البقاء: إنَّها صِفَةٌ أَيْضاً لَها، وقَدَّرَ ضَميراً مَحذوفاً، أيْ: وتُخْفونَ مِنْها كَثيراً. وأَمَّا مَكِّيّ فقالَ: "وتُخْفونَ" مُبْتَدأٌ لا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الإِعْرابِ. كأنَّه لَمَّا رَأى خُلُوَّ هذِه الجُملةِ مِنْ ضميرٍ يَعودُ على "قَراطيسَ" مَنَعَ كونَه صِفَةً، وقدْ تقدَّمَ أَنَّه مُقَدَّرٌ، أيْ: مِنْها، وهوَ أَوْلى. وجَوَّزَ الواحِدِيُّ في "تُبْدونَ" أَنْ يَكونَ حالاً مِنْ ضَميرِ "الكِتابِ" مِنْ قولِهِ: "تَجْعَلونَهُ قَراطيسَ" على أنْ تَجْعلَ الكِتابَ القَراطيسَ في المَعنى، لأَنَّه مُكْتَتَبٌ فيها. وقولُ الواحديِّ: (على أنْ تَجْعلَ) اعتذارٌ عن مَجيءِ ضميرِهِ مُؤنَّثاً. وفي الجُمْلَةِ فهو بَعيدٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ.
وقولُهُ: {وعُلِّمْتُمْ} يَجوزُ أنْ يَكونَ على قِراءةِ الغَيْبَةِ في "يَجْعلونَه"، وما عُطِفَ عَليه مُسْتَأْنَفاً، وأَنْ يَكونَ حالاً، وإنَّما أُتِيَ بِه مُخاطَباً لأَجْلِ الالْتِفاتِ، وأَمَّا على قراءةِ تاءِ الخِطابِ فهو حالٌ، ومَنِ اشتَرَطَ (قد) في الماضي الواقعِ حالاً أَضْمَرَها هُنا، أيْ: وقدْ "عُلِّمْتُمْ".
قولُهُ: "قُلِ اللهُ" يَجوزُ أَنْ يَكونَ لَفظُ الجَلالَةِ فاعلاً بفعلٍ مَحذوفٍ، أيْ: قُلْ أَنْزلَهُ، وهذا هُوَ الصحيحُ للتَصْريحِ بالفِعلِ في قولِه تعالى في سورةِ الزُخْرُفِ: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز} الآية: 9. ويَجوزُ: أنْ يَكونَ مُبْتَدأً ويَكونَ الخَبَرُ مَحْذوفاً تقديرُهُ: (اللهُ أَنْزَلَهُ)، وَوَجْهُ مُناسَبَتِهِ مُطابَقَةُ الجَوابِ للسُؤالِ، وذلك أَنَّ جُملةَ السُؤالِ اِسْمِيَّةٌ فَلْتَكُنْ جُمْلَةُ الجَوابِ كذلك.
قولُهُ: {فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} يَجوزُ أنْ يَكونَ "في خوضِهم" مُتَعَلِّقاً بِـ "ذرْهُم"، وأَنْ يَكون متَعَلِّقاً بِـ "يَلْعبون"، وأَنْ يَكونَ حالاً مِنْ مَفْعولِ "ذَرْهم"، وأَنْ يَكونَ حالاً مِنْ فاعلِ "يَلْعبون" فهذِهِ أَرْبَعةُ أَوْجُهٍ، وأَمَّا "يَلْعَبون" فيَجوزُ أَنْ يَكونَ حالاً مِنْ مَفعولِ "ذَرْهُم". ومَنْ مَنَعَ أَنْ تَتَعَدَّدَ الحالُ لِواحِدٍ لَمْ يُجِزْ حِينَئذٍ أَنْ يَكونَ "في خوضِهم" حالاً مِنْ مَفعولِ "ذَرْهُمْ" بَلْ يَجْعَلُه: إمَّا مُتَعَلِّقاً بِـ "ذَرْهُمْ" كَما تَقَدَّمَ، أوْ بِـ "يَلْعبون"، أوْ حالاً مِنْ فاعِلِهِ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ "يَلعبون" حالاً مِنْ ضَميرِ "خَوْضِهم"، وجازَ ذلكَ لأنَّهُ في قُوَّةِ الفاعِلِ لأنَّ المَصْدَرَ مُضافٌ لِفاعِلِهِ؛ ولأَنَّ التَقديرَ: ذَرْهُم يَخوضوا لاعِبينَ، وأنْ يَكونَ حالاً مِنَ الضَميرِ في "خَوضِهِمْ" إذا جَعَلْناهُ حالاً لأنَّه تَضَمَّنَ معنى الاسْتِقْرارِ فَتَكونُ حالاً مُتَداخِلَةً.
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ} تحقيقٌ لإنزالِ القُرآنِ الكَريمِ بعدَ تقريرِ إنْزالِ مَا بَشَّرَ بِهِ مِنَ التَوراةِ، وتكذيبٌ لِكَلِمَتِهم الشَنْعاء إثْرَ تَكْذيبٍ. "وهذا الكتاب: يَعْنِي الْقُرْآنَ الكريمَ ونُكِّرَ تفخيماً لَهُ، وهَذَا القُرْآنُ كِتَابٌ عَظِيمُ القَدْرِ، أَنْزَلْنَاهُ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ، كَمَا أَنْزَلْنَا مِنْ قَبْلُ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى ـ على نبيِّنا وعليه الصلاةُ والسلامُ.  "مبارك" أَيْ بُورِكَ فِيهِ، وَالْبَرَكَةُ الزِّيَادَةُ، ومعناها كَثْرَةُ الخَيْرِ ونَماؤهُ.
قال الإمامُ الرازي: العلومُ إمَّا نَظريَّةٌ وإمَّا عَمَلِيَّةٌ، أَمَّا العُلومُ النَظَرِيَّةُ فأَشْرَفُها وأَكْمَلُها مَعْرِفَةُ ذاتِ اللهِ وصِفاتِهِ وأَفْعالِهِ وأَحْكامِهِ وأَسْمائِهِ، ولا ترى في هذِهِ العُلومِ أَكْمَلَ، ولا أَشْرَفَ مِمَّا تَجِدُهُ في هذا الكِتابِ، وأَمَّا العُلومُ العَمَلِيَّةُ فالمَطْلوبُ إمَّا أَعْمالُ الجَوارِحَ، وإمَّا أَعْمالُ القَلْبِ، وهو المُسَمَّى بِطهارَةِ الأَخْلاقِ وتَزكِيَةِ النَّفْسِ، ولا تَجِدُ هذيْن العِلْمَيْنِ مَثْلَ ما تَجِدُهُ في هذا الكِتابِ، ثمَّ قَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ بأنَّ الباحِثَ فيهِ والمُتَمَسِّكَ
بِه يَحْصلُ لَهُ عِزُّ الدُنيا وسَعادةُ الآخِرَةِ.
قولُه: {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أَيْ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ، فَإِنَّهُ يُوَافِقُهَا فِي نَفْيِ الشِّرْكِ وإثباتِ التَوحيدِ، والمُرادُ بالموصولِ إمَّا التَوراةُ لأنَّها أَعْظَمُ كتابٍ نَزَلَ قَبْلَهُ، ولأنَّ الخِطابَ مَعَ اليَهودِ، وإمَّا ما يَعُمُّها وغيرَها مِنَ الكُتُبِ السَماوِيَّةِ وروي ذلك عن الحسن، وتَذكيرُ المَوصولِ باعتبارِ الكِتابِ أوِ المُنْزَلِ أَوْ نَحْوَ ذلك، ومَعنى كونِها بَيْنَ يَديْهِ أَنَّها مُتَقَدِّمَةٌ عليْهِ، فإنَّ كلَّ ما كانَ بيْنَ اليَدَيْنِ كذلك، وتَصديقُهُ للكُلِّ في إثباتِ التَوْحيدِ والأَمْرِ بِه، ونَفْيِ الشِرْكِ والنَهْيِ عنْهُ، وفي سائرِ أُصولِ الشَرائعِ التي لا تُنْسَخُ.
قولُه: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} ولِتُنْذِرَ: أَيْ أَنْزَلْنَاهُ لِلْبَرَكَةِ وَالْإِنْذَارِ. و"أمَّ القرى" يُريدُ مكَّةَ المكرّمةَ ـ وقد تقدَّمَ مَعنى تَسْمِيَتِها بذلك ـ وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا، وسُمِّيَتْ بـ "أُمَّ القُرى" لأنَّها مكانُ أَوَّلَ بيتٍ وُضِعَ للناسِ، وقيلَ لأَنَّ الأَرْضَ دُحيتْ مِنْ تَحتِها فكأنَّها خَرَجَتْ مِنْ تَحتِها كَما تَخْرُجُ الأوْلادُ مِنْ تحتِ الأُمِّ، وقالَ عُلَماءُ الجُغرافيا إنَّها تُعَدُّ في وَسَطِ العالَمِ جغرافياً، أوْ لأَنَّها يَحُجُّ إليْها أَهْلُ القُرى مِنْ كلِّ فَجٍّ عَميقٍ، وهُمْ يَتَجَمَّعون عِنْدَها تَجَمُّعَ الأَوْلادِ عِنْدَ الأُمِّ المُشْفِقَةَ ويُعَظِّمونَها أَيْضاً تَعْظيمَ الأُمِّ، ولأنَّها أعظَمُ القرى شَأْناً فغَيْرُها تَبَعٌ لَها كَما يَتْبَعُ الفَرْعُ الأَصْلَ. و"وَمَنْ حَوْلَها" يَعْنِي جَمِيعَ الْآفَاقِ، مِنْ أَهْلِ المَدَرِ والوَبَرِ، في المَشارِقِ كلِّها والمَغارب، لِعُمومِ بِعْثَتِهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. أو لأنَّها كانتْ وَسَطَ
التِجارَةِ في البِلادِ العَربِيَّةِ، أو لأنَّ قُريشاً ذُرِّيَّة إبْراهيمَ ـ عليه السلامُ ـ فيها.
قولُهُ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} وبِما فيها مِنَ الثَوابِ والعِقابِ، يُرِيدُ
أَتْبَاعَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذلكَ أنَّ الذينَ يُؤمنونَ بالآخِرَةِ يُؤمنون بالحَقِّ والخَيْرِ؛ لأنَّهم يَروْنَ أنَّ الحياةَ الدُنيا فيها التَنازُعُ بيْنَ الخَيْرِ والشَرِّ، بيْنَ النَفْسِ اللَوَّامَةِ، والنَّفْسِ الأَمَّارَةِ، ولا بُدَّ أَنْ يَنْتَصِرَ الخَيْرُ، لأنَّهُ الفِطْرَةُ، ولا يَكونُ ذلكَ إلاَّ بِحياةٍ أُخْرى، ولأَنَّ الذين يُؤمنونَ بالآخرةِ يُؤمنونَ بحِكْمَةِ الإيجادِ والتَكوينِ، ولا يُمْكِنُ أَنْ تَكون نَتيجَةُ الحياةِ النِهائيَّةُ هي تلك المُغالَبَةُ وذلك التَناحُرُ، وفوقَ ذلك إنَّ الإيمانَ بالغيبِ يَجعَلُ النَّفسَ مُسْتَسْلِمَةً للهِ تَعالى، راضيةً بما عِنْدَهُ، وما أَعَدَّهُ لَها مِنْ نَعيمٍ، فلِهذا كانَ الإيمانُ بالآخرةِ والإيمانُ بالقرآنِ العَظيمِ مُتَلازميْنِ لَا يَنْفَصِلان، فمَنْ آمَنَ بالآخرةِ آمَنَ بالقُرآنِ، ومَنْ آمَنَ بالقُرآنِ آمَنَ بالبَعْثِ والنُّشورِ والقيامَةِ واليومِ الآخِرِ.
قولُهُ: {يُؤمنونَ بِهِ} أي بالكِتابِ، وقيلَ: بِمُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ لأنَّهم يَرْهَبونَ مِنَ العَذابِ، ويَرْغَبونَ في الثَوابِ، ولا يَزالُ ذلك يَحْمِلُهُمْ على النَّظَرِ والتَأَمُّلِ، حتّى يُؤمِنوا بِه، ومَنْ آمَنَ بِالْآخِرَةِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالنَّبِيِّ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ ـ ولا بِكتابِهِ القرآن الكريم ـ فإيمانُهُ غيرُ مُعْتَدٍّ بِهِ.
قولُهُ: {وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ} يَعْني الصَلَواتِ الخَمْسَ، و"يُحَافِظُونَ" يُداوِمون، ويُحْتَمَلُ أَنْ يُرادَ بالصَّلاةِ مُطْلَقَ الطاعةِ مَجازاً، أو
أنَّه اكْتَفى بِبَعضِها الذي هُو عِمادُ الدِّينِ وعَلَمُ الإيمانِ.
قولُهُ تعالى: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} فيهِ دَليلٌ على تَقَدُّمِ الصِفَةِ غيرِ الصَريحةِ على الصَريحَةِ. وأُجيبَ عنْه بأنَّ "مُباركٌ" خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، وقدْ تَقدَّمَ تَحقيقُ هذا في قولِهِ: {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} المائدة: 54.
قولُه: {مصدِّقُ الذي} مُصَدِّقُ: قال مكيٌّ: هو نَعْتٌ للكِتابِ على حَذْفِ التَنْوينِ لالْتِقاءِ الساكنَيْنِ، و"الذي" في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وإنْ لم يُقَدَّرْ حذفُ التنوين كانَ "مصدقُ" خَبَراً بعدَ خَبَرٍ، و"الذي" في مَوْضِعِ خَفْضٍ. وهذا الذي قالَهُ غَلَطٌ فاحِشٌ، لأنَّ حَذْفَ التَنْوين إنَّما هُو للإِضافَةِ اللَّفْظِيَّةِ وإنْ كانَ اسْمُ الفاعِلِ في نِيَّةِ الانْفِصالِ، وحَذْفُ التَنْوينِ لالْتِقاءِ الساكنَيْنِ إنَّما يَكونُ في ضَرورةٍ، أوْ نُدورٍ،  كقولِ أَبي الأَسْوَدِ الدُؤَلِيِّ:
فأَلْقَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتَب ............................ ولا ذاكرَ اللهَ إلاَّ قليلاً
والنَّحْوِيُّونَ كُلُّهم يَقولونَ في "هذا ضاربُ الرجلِ": إنَّ حَذْفَ التَنْوينِ للإِضافةِ تَخْفيفاً، ولا يَقولُ أَحَدٌ مِنْهم في مِثْلِ هَذا: إنَّه حُذِفَ التَنوينُ لالْتِقاءِ الساكِنَيْنِ. وقَدَّمَ وَصْفَهُ بالإِنزالِ على وَصْفِه بالبَرَكَةِ بِخِلافِ قولِهِ: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} الأَنْبِياء: 50. قالوا: لأنَّ الأَهَمَّ هُنا وصْفُهُ بالإِنْزالِ إذْ جاءَ عُقَيْبَ إنْكارِهم أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ على بَشَرٍ مِنْ شيءٍ، بِخِلافِ هناك، وَوَقَعَتِ الصِفَةُ الأُولى جُملةً فِعْلِيَّةً، لأنَّ الإِنزالَ يَتَجَدَّدُ وَقْتاً فَوَقْتاً، والثانيةُ اسْماً صَريحاً، لأنَّ الاسْمَ يَدُلُّ على الثُبوتِ والاسْتِقْرارِ، وهُوَ مَقْصودٌ هُنا، أيْ: بَرَكَتُه ثابِتَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، و"مُصَدِّقُ" صِفَةٌ أَيْضاً، أوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ على القولِ بِأَنَّ "مُبارَكٌ" خَبَرٌ لِمُبْتَدأٍ مُضْمَرٍ، وَوَقَعَ صِفَةً للنَكِرَةِ لأَنَّهُ في نِيَّةِ الانْفِصالِ كقولِهِ: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} الأحقاف: 24. وكقولِ جَريرٍ:
يا رُبَّ غابِطنا لو كان يعرِفُكم ................ لاقَى مُباعَدَةً مِنْكم وحِرْمانَا
وقال الواحِدِيُّ: "ومُبارَكٌ" خَبَرُ الابْتِداءِ فُصِلَ بَيْنَهُما بالجُمْلَةِ، والتَقديرُ: وهذا كتابٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ، كَقولِهِ: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} الأنبياء: 50. وهذا الذي ذَكَرَهُ لا يَتَمشَّى إلاَّ على أَنَّ قولَه: "مُبارَكٌ" خَبَرٌ ثانٍ لـ "هَذا"، وهذا بَعيدٌ جِدّاً، وإذا سُلِّمَ ذلك فيَكونُ "أَنْزَلْناهُ" عِنْدَهُ اعْتِراضاً على ظاهرِ عِبارَتِه، ولكنْ لا يُحْتاجُ إلى ذلك، بَلْ يَجَعَلُ "أَنزلناهُ" صِفَةً لِـ "كتابٌ"، ولا مَحذورَ حينئذٍ على ه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
فيض العليم .... سورة الأنعام، الآية: 91 ـ 92
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 2
» فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 18
» فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 35
» فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 51
» فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 67

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
روضة الشاعر عبد القادر الأسود :: ...:: الروضة الروحانية ::... :: روضة الذكر الحكيم-
انتقل الى: